Saturday, November 12, 2011

كتاب: تشكّل الإسلام وتطوّره وانتشاره في بلاد المغرب: دراسة مقارنة: مقتطف من المقدمة




مقدمة الكتاب: في الدّراسات الإسلاميّة المقارنيّة


الدّراسات الإسلاميّة المقارنيّة Comparative Islamic Studies مشغل جديد انتشر في كثير من الجامعات الإسلاميّة المتقدّمة حول العالم، ولكنّه لا يزال محدودا في الجامعات العربيّة، رغم أنّه مبحث يساهم مساهمة فعّالة في إنارة جوانب كثيرة من الإسلام لم تُفلح الدّراسات التّحليليّة الكلاسيكيّة في إنارتها.
وتُعتبر الدّراسات المقارنة عاضدا لمشروع تطوير العلوم الإسلاميّة في الثّقافة العربيّة المعاصرة، فهي تحلّل البنى المكوّنة للظّاهرة الدّينيّة الإسلاميّة عند عدد من الفرق والمذاهب الإسلاميّة من الدّاخل بدل النّظر إليها والحكم عليها من الخارج، وتبحث في الجوامع المشتركة للمقالات المكوّنة للفكر الإسلامي، فتُنشئ جسور تواصل وتكامل بين كلّ المذاهب والطّوائف الإسلاميّة، وتنفي الخلاف لا الاختلاف، بعد أن عصفت بالأمّةِ الطّائفيّةُ المقيتةُ والمذهبيّة المبغضة والتّكفيريّة الصّادّة عن سبيل الله فمزّقتها كلّ ممزّق.
وتعني المقارنيّة استواء النّظر التّحليليّ إلى كلّ الفرق والمذاهب والأفكار والأعراق والأجناس الّتي شاركت في صوغ الفكر الإسلامي. وتعني أيضا التّعامل العلمي المحايد مع المادّة المدروسة لأنّها مادّة خلافيّة، فلا ينخرط الباحث بوعي أو دون وعي في صراعات الماضي، ولا يصدر أحكاما لا تدخل ضمن مجال البحث العلميّ الرّصين، ولا ينحاز إلى فرقة أو أخرى فيبدّع أو يكفّر غيرها من الفرق لمجرّد أن خالفته في تأصيل الأصول أو تفريع الفروع.
وبما أنّنا نقارن فكرا دينيّا يتواشج مع كلّ الأفكار المحرّكة للمجتمع، وللظّاهرة الدّينيّة خصوصيّات وشروط انتظام وآليّات تحليل، فإنّ نظرنا إلى الظّواهر سيختلف باختلاف المكوّنات المباشرة لتك الظّواهر. ولمّا كان الإسلام دينا وثقافة وحضارة وتاريخا وهويّة فإنّ الشّفرات التّحليليّة للإسلام ستختلف باختلاف المفهوم المراد من المصطلح.
وفي هذا وذاك، وفي كلّ مراحل البحث، اقتضت خصوصيّة المادّة المدروسة، الإسلام، الإيمان المنهجي: أي أن ننظر إلى المفاهيم والأفكار الإسلاميّة في بلاد المغرب إلى نهاية القرن الهجري السّادس نظر المؤمنين بها إليها في تلك الفترة لندرك كنهها......


مقدّمة البحث

يكتسب الدّين صفة الشّمولية بما أنّه ما من مجتمع على الأرض لم يعرف تجربة دينيّة وضعيّة أو توحيديّة[1]. ويكاد العقديّ في أغلب التّجارب الدّينيّة يُجْمِل أوجه نظرة الإنسان إلى الكون والوجود والمصير[2]. وتُعتبر الدّراسة المقارنيّة للفكر الدّيني من أكثر الدّراسات تعقيدا في العلوم الإنسانيّة الحديثة والمعاصرة نظرا إلى تداخل العوامل المحدّدة للظّاهرة الدّينيّة وتشابكها[3].
وتمثّل المقالات العقديّة والاِختيارات الفقهيّة في الفكر الإسلاميّ منظومة متكاملة تستجيب لمواضعات العمران البشريّ الّذي ينشئه المتديّن اِنطلاقا من ثقافته ومن اِنتمائه ومن الجهاز المفهوميّ الّذي يقارب به هذه القضايا. وإذ النّصّ القرآنيّ لا يُفهم إلاّ بالمرجع الثّقافي الّذي نزل بلسانه وما اِنفكّ يحاوره وبالبيئة الّتي اِنتشر فيها وما اِنفكّ يسايرها. ولا شكّ في أنّ للمرجع الأوّل شأناً في نظام النّصّ القرآنيّ وجانب التّشريع فيه وللمرجع الثّاني شأناً في تفهّم ذاك النّظام وفي تأويل التّشريع وفق أسئلة العمران. ومن هنا تتحتّم دراسة الظّاهرة الدّينيّة في كلّيّتها، من حيث الجدل المحرّك لها، لفهم أسرار التّشكّل والاِنتشار والسّيادة والاِستمرار والبحث فيها عن مواطن الخصوصيّة ونقاط التفرّد. وهو ما يقتضي دراسة الجدل بين الفرق والمذاهب الإسلاميّة المؤسّسة للتّجربة الدّينيّة في بيئة ما[4]، باِعتبار الجدل محركا للتّاريخ منتجا للأفكار مهما كانت صفتها، فهو يحكمنا في كلّ مظاهر حياتنا وتصوّراتنا وفي كيفيّات التّفكير وطرق الإنتاج[5].
وبما أن فهم الفكر وليد بيئته زمانا ومكانا[6]، إذ هو يتلون بألوانها ويتكيف معها ويصطبغ بمشاغل الإنسان فيها فلا بدّ أن يرتبط التّحليل الفكريّ بفضاء جغرافيّ يؤطّره تجنّبا للتّعميمات المخالفة للبحث العلميّ الرّصين. ولمّا كانت الدّراسات الإسلاميّة المقارنيّة في بلاد المغرب شحيحة ومشتّتة وغير معمّقة فقد صرنا إلى اختيار بلاد المغرب فضاء جغرافيّا لهذه الدّراسة الإسلاميّة المقارنيّة. وهو اِختيار راجع عندنا إلى سببين اِثنين:
- يتمثّل الأوّل في الوعي العميق بأنّ التّجارب الفكريّة والثّقافيّة قائمة على التنوّع والاِختلاف. فللإسلام تجارب فكريّة ثقافيّة متنوّعة بتنوّع المجال الجغرافيّ الّذي اِنتشرت فيه هذه الرّسالة. والفكر الإسلامي العربي غير الفكر الإسلامي الفارسيّ والتّركي والأندونيسي دون القول بالقطائع الكلّيّة لأنّ هذه النّماذج الفكريّة قائمة على التواصل بما أنّ مفاهيم الرّسالة تنتظمها وتؤطّرها[7]. ولكنّ المختلف بينها هو طرق الفهم والتّأويل وكيفيّات الإنتاج وآليّاته[8]. ولهذا فالإنسان عندما يفكّر وينتج في أيّ مجال فإنّ تفكيره وإنتاجه رهن ظرفيّته وثقافته وموقعه. وهذا لا ينطبق على الفكر الإسلامي فقط بل على كلّ التّجارب الدّينيّة توحيديّة كانت أو وضعيّة. فالفكر المسيحي المشرقي ليس ذاته الفكر المسيحي الرّومانيّ وهذا مختلف حتمًا عن الفكر المسيحي الإفريقي والقبطيّ وكذا الأمر بالنّسبة إلى الفكر اليهودي.
واِختيار البيئة المغربيّة راجع إلى الرّغبة في تفهّم أنماط حضور الدّينيّ وتشكّل تجربة دينيّة إسلاميّة في بيئة مختلفة كلّيّا أو جزئيّا عن التّراث المشرقي الّذي نشأت فيه التّجربة الأولى ونهلت منه. وهي تتّصل بمجموعة إثنيّة مختلفة أيضا كلّيا أو جزئيا عن المجموعة التي نزل الوحي بلسانها وتمّت أسلمة بعض من شعائرها وعاداتها في حين قُبل بعضها الآخر كما هو مع تغيير الدّلالات أو تحوير كيفيّة الأداء وهذا ما خلق ألفة بين المتعبّد والعبادة. وستؤكّد هذه الرّؤية غنى الفكر الإسلامي في تلبّسه بالظّاهرة الاِجتماعيّة واِضطلاعه بمجمل آمال النّاس وقدرته على التّلوّن بمشاغلهم والتّكيّف مع آرائهم، وتبيّن كيف يصوغ الإنسان رؤاه وفق تجاربه، ويصوغ تجاربه وفق بيئته وتكون بيئته نقطة في جدل التّاريخ المتواصل ولحظة من لحظات التّاريخ الإنساني العام.
- أمّا ثاني الأسباب فيتّصل بنظرتنا إلى الصّلة بين التّأريخ للحدث والتّأريخ للفكر اِعتبارا لتولّد الثّاني عن الأوّل وكونه نتيجة حتميّة مباشرة له، رغم صفته غير الواضحة أحيانا، وكلاهما وليد الحاجة[9]. وعملنا يتمثّل في تبيين درجات الوضوح والعتمة في هذه العلاقة أوّلا وإدراك قوانين مفسّرة لها ثانيا. وذلك يتطلّب تفكيك نظام الأحداث التّاريخيّة وفهم المنطق الذي صيغت وفقه، ومن ثمّ وصل الظّاهرة الدّينيّة بالحدث التّاريخيّ والمحيط الجغرافي والثّقافي والذّهنية السّائدة وقتها. أي لا بد من تفكيك هذه التّجربة في إطار الملابسات العمرانيّة في البيئة التي تعمل على تشكيل هذه الظّاهرة وتعميقها.
وهذا ما دفعنا إلى ضبط زمنيّ لمجال الدّراسة بعد الضّبط الجغرافيّ. فصرنا إلى أنّ نهاية القرن الهجريّ السّادس تمثّل منعرجا حاسما في تاريخ بلاد المغرب لا دينيّا فقط بل سياسيّا أيضا. وإن كان التّواشج متواصلا بين هذه الفترة والفترة التي ستتلوها لأنّنا لا نقول بالقطائع في الفكر وتاريخه ولا في التّجارب وإنما في الملامح والخصائص. فخصائص هذه وتلك وملامحهما غير متجانسة قطعا. والذّروة التي بلغها المغرب الإسلاميّ في القرن الهجريّ السّادس في عهد الموحّدين لم يتجاوزها لا فكريا ولا سياسيّا إلى اليوم. ويعتبر اِبن رشد الحفيد (595/ 1198) تتويجا فريدا لها. وقد شهدت هذه الفترة الأولى حرّكية دينيّة وسياسيّة واِجتماعيّة وتحولات هامّة أثّرت في التّركيبة البشريّة لسكّان شمال إفريقيا. فصادرنا على أنّ هذه الفترة تمثّل دورا حضاريّا واحدا يتكوّن من ثلاثة أوضاع ثقافيّة. يمتدّ الأوّل إلى نهاية القرن الهجريّ الثّاني، وهو وضع الاِنتشار، والثّاني يمتدّ إلى أواسط القرن الهجريّ الخامس وهو وضع السّيادة، وينتهي بوفاة اِبن حزم (456/ 1064 ) والثّالث يمتدّ إلى نهاية القرن الهجريّ السّادس وهو وضع الاِستمرار. وينتهي بوفاة اِبن رشد الحفيد (595/ 1198). وتمّ اِختيار هذا التّحديد بعد اِستقراء عدد من الأبحاث المعاصرة الّتي اِعتنت بالفكر الإسلاميّ في بلاد المغرب في هذه الفترة وبعد القراءة الشّخصيّة للمدوّنة المغربيّة[10].
وتكوّن هذه الأوضاع الثّقافية الثّلاثة دورا حضاريّا واحدا تتوجّب دراسته دراسة مقارنيّة في كلّيته لا بالنّظر إلى مقالة واحدة أو فرقة واحدة فقط وإنّما باِعتبار كلّ الأفكار الّتي عرفتها بلاد المغرب عند كلّ الجماعات المكوّنة للتّركيبة السّكّانيّة لهذه المنطقة. أمّا الدّور الحضاريّ الثّاني فهو يتكوّن من أوضاع ثقافيّة مختلفة سيتمّ تحديدها وتحديده في دراسة لاحقة ضمن مشروع متكامل يعنى بملامح التّجربة الدّينيّة في شمال إفريقيا.
وهذان المفهومان اللّذان سنقارب بهما هذه القضيّة يمثّلان مفهومين أساسيّن لتبيّن الخصائص الواِسمة للفكر في مرحلة تاريخيّة محدّدة. ويعني مفهوم الوضع الثّقافي جملة البنى والأفكار والهياكل والمؤسّسات المكوّنة للفكر في فترة تاريخيّة محدّدة ومضبوطة. أمّا مفهوم الدّور الحضاريّ فيعني الحقبة التّاريخيّة الّتي يمرّ بها الفكر ويكون فيها موسوما بسمات معيّنة قد يتواصل بعضها في حقبة أخرى لاحقة، وقد تعرف هذه الحقبة اللّاحقة تغيّرا هيكليّا جذريّا. ومن هنا فالدّور الحضاريّ أشمل من الوضع الثّقافي لأنّ كلّ دور لابدّ أن يشمل أوضاعا ثقافيّة مختلفة قد تتكامل وقد تتصارع، وفي تكاملها وتصارعها تخلق ما اِصطلحنا على تسميته بالدّور الحضاريّ. والدّور عندنا أقرب إلى المفهوم Concept المجرّد منه إلى المحدّد الزّمني[11].........................................
.................
...........


[1] R. Girard, La violence et le sacré, 135
[2] حرصا منّا على دقّة النّقل الأكاديميّ في ما يتّصل بالأفكار الّتي استفدنا منها من كتب غير عربيّة، فإنّنا نورد الشّاهد بلغته الأصليّة ثمّ ننقل معناه إلى اللّغة العربيّة. وتعني هذه العلامة [م] ضبطا للمعنى لا تعريبا للشّاهد.
Ascétisme, mysticisme, rapport au monde, salut, virtuosité, charisme (de la personne ou de la fonction), prophétie (exemplaire ou de mission), quotidianisation, formalisme magique, désenchantement, église, secte, orthodoxie, hérésie, doctrine, sacrement, piété, éthique, ethos, cure des âmes, conduite de vie, habitus, etc.… Presque tous venus de la théologie. M. Weber, Sociologie des religions, 13.
[م: إنّ الزّهد والتّصوّف والعلاقة بالعالم والسّلام والمهارة والبركة (ما تعلّق منها بالشّخص أو بالحدث) والنّبوّة (النّبويّة أو الرّسوليّة) والنّزعة اليوميّة والشّكلانيّة السّحريّة ونزع السّمة السّحريّة والكنيسة والفرقة والبدعة والعقيدة والشّعيرة والتّقوى والأخلاق وتنقية الأرواح ونمط العيش... كلّها أمور منبثقة في الأغلب من العقيدة].
[3] M. Augé, Symbole, Fonction, Histoire : les interrogations de l’anthropologie, 52. Encyclopædia Universalis, CD- DVD, 6. 0. 72, Religion, (Sabbatucci Dario).
[4] الجدل في تعريف الباجي هو تردّد الكلام بين اِثنين قصد كلّ واحد منهما تصحيح قوله وإبطال قول صاحبه. الباجي، المنهاج في ترتيب الحجاج، 11.
[5] Los eruditos religiosos tuvieron una enorme influencia en los ámbitos espiritual y temporal de la sociedad musulmana, y en el modo de pensar y de vida de las gentes, contribuyendo a la existencia de una religiosidad universal y convirtiéndose en árbitros de múltiples aspectos de la conducta humana. A. G. Chejne, Historia de España Musulmana, 259.
[م: لعلماء الدّين تأثير عميق في تكييف المحيط الرّوحيّ والدّنيوي للمجتمع الإسلاميّ، وفي كيفيّة تفكير البشر ونمط عيشهم. وهم يساهمون بذلك في خلق تديّن كونيّ يحدّد كلّ مظاهر السّلوك البشري].
[6] لا بدّ أن يميّز القارئ هنا بين مصطلحين مركزيّين: الدّين، والفكر. الدّين ربّاني والفكر بشريّ. وبحثنا يرتكز على الثّاني لا على الأوّل. وهذا التّمييز ضروريّ لأنّ المستشرقين وكثيرا من الدّارسين العرب يخلطون بين المصطلحين خلطا متعمّدا. والغايات الاستشراقيّة في توجّههم هذا التّوجّه واضحة ولا تحتاج إلى التّنبيه عليها.
[7] El Islam magrebí no es, en su aspecto práctico, igual al egipcio, al sirio, al turco y no digamos al pakistaní, al filipino o al indonesio aun cuando los principios sagrados sean los mismos, igual el culto directo a Dios y único el Libro del que emana la religión: el Corán. F. V. Martínez, El Islam en el Mundo Bereber, 6. F. V. Martínez, Mitos y leyendas en el mundo Bereber, 12.
[م: لا يطابق الإسلام المغربيّ في مظهره العمليّ الإسلام المصريّ أو السّوريّ أو التّركيّ، دون أن نتحدّث عن الإسلام الباكستانيّ أو الفيلبّينيّ أو الأندونيسيّ، حتى ولو كان المعتقد واحدا والشّعائر واحدة والكتاب الّذي منه ينبثق الدّين واحدا]. ولكن لا بدّ أن نؤكّد هنا أنّ مصطلح "الإسلام القُطْري": مثل "الإسلام التّونسي" أو "الإسلام التّركي"... ليس سوى مصطلح استشراقي هدفه تجزيء الدّين الإسلامي وإظهاره وكأنّه أديان متعدّدة. والأصوب علميّا وعقديّا اعتبار التّنوّع في الفكر لا في الدّين. الدّين واحد أمّا الفكر فيختلف باختلاف الثّقافات واللّغات والعصور. وعلى القارئ أن يستوعب الفرق بين المصطلحين. وسنخصّص لهذا الثّبت الاصطلاحيّ بحثا مستقلّا.
[8] نؤكّد هنا المفهوم المعاصر لعمليّة الفهم كما تشكّل في المباحث الفلسفيّة المعاصرة وخاصّة في الهيرمونيطيقا مع شلايرماخر وﭙول ريكور وﭭدامر باِعتبار أنّ التّأويل فلسفيّا ليس فعلا منضافا إلى الفهم بل هو قوامه الأساسيّ. وهذا ما بيّنه ريكور في كتابه De l’interprétation ; essai sur Freud,. وجلّاه ﭭدامر في قوله: Auslegung ist nicht ein zum Verstehen nachträglich und gelegentlich hinzukommender Akt, sondern Verstehen ist immer Auslegung, und Auslegung ist daher die explizite Form des Verstehens. Mit dieser Einsicht hängt zusammen, daß die auslegende Sprache und Begrifflichkeit ebenfalls als ein inneres Strukturmoment des Verstehens erkannt wird. H. G. Gadamer, Wahrheit und Methode, 291.
[م. ليس التّأويل فعلا يمكن أن يضاف ظرفيّا إلى الفهم. "فَهِمَ" هي دائما "أَوَّلَ". ويكون التّأويل، نتيجة لذلك، هو الشّكل الظّاهر للفهم. وهذا المعنى يؤسّس للفكرة الّتي تفيد أنّ اللّغة هي الأداة المفهوميّة للفهم].
[9] اِعتبر فراد دونر أنّ الحاجات الثّقافية هي الّتي ولّدت علم التّاريخ الإسلاميّ في بداياته وكتب يقول: The classical Islamic historiography was the product of specific needs that arose during the growth of the community of Believers- particularly the need to define itself as a community of Muslims distinct from other monotheisms, the need to justify its claim to religious and temporal superiority, and the need to adjudicate internal disputes over political and religious leadership within the community. F. M. Donner, Narratives of Islamic origins, 291.
[م. التّاريخ الإسلاميّ القديم نتاج حاجات مخصوصة ظهرت أثناء توسّع جماعة المؤمنين. ومن أهمّ هذه الحاجات: حاجة تحديد هذه الجماعة لنفسها باِعتبارها جماعة إسلاميّة تختلف عن باقي الجماعات التّوحيديّة، وحاجة البرهنة على إثبات اِدّعاء تفوّقها الدّينيّ والدّنيوي، وحاجة الحكم في الجدل الدّاخليّ حول القيادة السّياسيّة والدّينيّة داخل هذه الجماعة ذاتها].
[10] ذهب الأستاذ فرحات الجعبيري في اِستقرائه للفكر الإباضي في بلاد المغرب إلى تقسيمه إلى ثلاث مراحل: الأولى هي مرحلة النّشأة والثّانية هي مرحلة النّضال وتمتدّ من القرن الثّاني إلى القرن الخامس والثّالثة هي مرحلة النّضج وهي مرحلة القرن الهجري السّادس. فرحات الجعبيري، البعد الحضاريّ للعقيدة الإباضيّة، 766. وهو تحديد يتّفق مع الأوضاع الثّقافية الثّلاثة الّتي ضبطتها لهذا الدّور الحضاريّ الأوّل وبعض الاِختلاف راجع إلى أنّ ما ذهب إليه الأستاذ ينحصر في الفكر الإباضي بينما وسّعت هذه الأوضاع اِنطلاقا من اِستقراء كافّة تشكيلات الفكر الدّيني في بلاد المغرب وحصرتها فيما أثبته في المتن. وذهبت الباحثة الإسبانيّة إيسابال فيرّو إلى تقسيم المالكيّة الأندلسيّة إلى مرحلتين اِثنتين، حسب بحثها المحدّد بالقرن الخامس: الفترة الأولى من القرن الثّاني إلى النّصف الأوّل القرن الثّالث وهي فترة اِنتشار الفقه المالكي. والثّانية تنتهي عند اِبن عبد البرّ والباجي وهي فترة تطوير هذا الفكر بالاِهتمام بالحديث وبأصول الفقه. وهو تقسيم يتّفق وما صرت إليه أيضا. M. I. Fierro, El derecho maliki en Al-Andalus : siglos II / VIII – V/ XI, 130.
وأشير إلى أنّ الباحث ﭙيتر هيث قد قسّم التّاريخ الأندلسيّ إلى ثلاثة أطوار أيضا: الأوّل من (92/ 711) إلى (350- 961) والثّاني من (350/ 961) إلى (636/ 1238) والثّالث من (636/ 1238) إلى (897/ 1492). ودرس فيه المعارف الثّلاث: المقدّسة والدّنيويّة والعلميّة. وهو تقسيم لم يذكر أيّ تبرير منهجيّ أو معرفيّ له ويخضع لنظرة سياسيّة إذ يربط بين تغيّر السّلط السّياسيّة الحاكمة والسّمات المعرفيّة لكلّ فترة. Peter Heath, Knowledge, 96- 121.
أمّا ميكلوس موراني فقد اِعتمد على المصنّفات المالكيّة المغربيّة ليقسّم التّراث المالكي إلى أربع فترات: تمثّل الأولى البدايات وتمتدّ من مالك بن أنس إلى محمّد بن سحنون Die Anfänge: Das 2. und 3. Jh. D. h. : die Generation von Malik b. Anas bis Muhammad b. Suhnun. وتمتدّ الثّانية من سحنون إلى نهاية القرن الثّالث Die Schülergeneration Sahnuns bis zum Ende des 3. Jh. D. h. . أمّا الثّالثة فتشمل العصرين الفاطمي والزّيري Das 4. Jahrhundert d. h.die Malikiyya zur Zeit der Fatimiden und Ziriden والرّابعة من القابسي إلى الغزو الهلاليDas 5. Jahrhundert d. h. : von al- Qabisi bis zur Hilal Invasion. ولكنّه بنى هذا التّقسيم اِعتمادا على مصنّفات مالكيّة إفريقيّة فقط. Miklos Muranyi, Beiträge zur Geschichte der hadīt und Rechtsgelehrsamkeit der Malikiyya in Nordafrika bis zum 5. jh. D. h ; Bio- bibliographische Notizen aus der Moscheebibliothek von Qairawan.
[11] اِعتمد اِبن خلدون على مفهوم "الطّور" لدراسة أحوال الممالك فقال "اِعلم أنّ الدّولة تنتقل في أطوار مختلفة وحالات متجدّدة ويكتسب القائمون بها في كلّ طور خلقا من أحوال ذلك الطّور لا يكون مثله في الطّور الآخر". اِبن خلدون، المقدّمة، 219.

كتاب: الفكر العقدي وأسس سيادة الإسلام: دراسة مقارنة: مقتطف من المقدمة

الدكتور المبروك المنصوري: الفكر الإسلامي في بلاد المغرب: الفكر العقدي وأسس سيادة الإسلام
Islamic Thought in the Maghreb: Theological Thought and the Dominance of Islam in the Maghreb
تونس، الدّار المتوسطية للنشر، 2011.
http://www.mediterraneanpub.com/

تمهيد
بحثنا في الكتاب الأوّل من هذا المشروع: "تشكّل الفكر الإسلامي وتطوّره وانتشاره في بلاد المغرب" كيفيّة تشكّل المقالات الإسلاميّة عقديّة وفقهيّة في بلاد المشرق مركّزين على ما سينتشر منها في بلاد المغرب. ثمّ درسنا كيفيّة تشكّل الفكر الإسلامي في بلاد المغرب في القرنين اللّذين تليا فتح هذه البلاد وما رافق الفتح والتّشكّل من ثورات وتنبّؤات وصراعات سياسيّة ومذهبيّة وفتن، وقد أثّر جميعها في العمران المغربي، وفي الفكر المغربي، وفي نوعيّة المقالات الّتي سينتجها هذا الفكر.
وسنركّز في هذا الكتاب على كيفيّة تشكّل المقالات العقديّة المغربيّة من وجهة نظر مقارنيّة للفكر المالكي والإباضي والإسماعيلي والظّاهري والموحّدي، منطلقين من فرضيّة مركزيّة قوامها أنّ تشكّل هذه المقالات العقديّة هو الّذي هيّأ لسيادة الفكر الإسلامي في بلاد المغرب، وأرسخه في عقول المغاربة وقلوبهم. وسيسمح لنا هذا التّصوّر بالتّعرّف على آفاق تطوّر تصوّر الإنسان لله ومن ثمّ للدّين ثمّ للوجود والمصير ممّا سيمكننا من اِستجلاء أثر العمران في تطوّر الفكر الإسلاميّ في هذه البيئة، ومن استجلاء كيفيّة تكيّف الفكر الإسلامي بالأسس الّتي اِنطلاقا منها يفكّر المسلم وينتج ويعيش ليحقّق سعادة الدّارين. وقد كان لهذه الأسس بنى ماديّة ظاهرة وأخرى روحيّة خفيّة ولكن كان لها أيضا بنى ثقافيّة وأنثروبولوجيّة وإثنيّة تعمل داخلها عمل الألياف البصريّة الواصلة بين العين والدّماغ وتعمل جميعها على خلق سيادة الفكر الإسلاميّ في بلاد المغرب.
وسنستأنس بكامل المدوّنة المغربيّة الّتي أُنْتِجَت بين الفتح ووفاة ابن رشد الحفيد في نهاية القرن السّادس. وسندرس كلّ المقالات العقديّة الإسلاميّة عند كلّ الفرق والمذاهب دون تهميش أو إقصاء أو إصدار أحكام معياريّة معتمدين منهجا مقارنيّا علميّا يستوعب كلّ ما أنتجه أسلافنا، ويحافظ على مسافة فاصلة بين الباحث ومادّة البحث، فلا ينخرط في الجدل الّذي انخرط فيه أسلافنا في أيّامهم، ولا ينزاح إلى إصدار الأحكام عليهم.
وسعيا منّا إلى عالميّة الفكر الإسلاميّ فإنّنا سنستأنس أيضا بالمناهج الحديثة الّتي أثبتت جدواها في دراسة الظّاهرة الدّينيّة وساعدت الباحثين على تفهّمها بشكل أعمق وأمتن. فنوظّف بعض مبادئ اللّسانيّات لنحلّل هذه المقالات الفكريّة باِعتبارها دوالَّ ترتبط بمراجع ويتشكّل مدلولها من ثلاث زاويا:
- قيم الفكر والثّقافة وطاقات التّخيّل ومبادئ الأخلاق والمقولات والنظّم الإثنولوجيّة. وهو ما سنسمّيه بالمهاد الثّقافي. وهو مفهوم يجمع الثّقافي في أوجهه المختلفة: الرّسميّ والمهمّش والعالم والشّعبي.
- المادة النّصيّة المصوغة في القرآن والحديث وكيفيّة تأويل العرب لهذه المادّة النصيّة باِعتبار القرآن نازلا بلسانهم وآفاق اِنفتاح التّأويل على المهاد الثّقافي العربيّ قبل الإسلام وبعده ثمّ آفاق اِنفتاحه على الأمهدة الثّقافية الّتي كان للعربيّ بها اِتّصال وتشابك فتحاور خاصّة المهاد الفارسيّ والمهاد القبطي والمهاد الزّنجي والمهاد الإمازيغي الّذي يعنينا بالدّرجة الأولى.
- آفاق انفتاح المهاد الإمازيغي على الأنظمة الغازية لبلاد الإمازيغ قبل الفتح الإسلامي[1] وما لهذه الأنظمة من تأثير حيّ وثريّ في البنى الثّقافيّة الّتي جادلها الإسلام ثمّ حاورها ثمّ تشرّبها.
ومن هنا ترانا نعود من جهة إلى ما اِبتدأنا به لنقرّر أهميّة المهاد الثّقافي مغذّي التّأويل، ولنقرّر أهميّة التّأويل باِعتباره قراءة ثقافيّة للمادّة النّصيّة على المادّة النّصيّة ذاتها. ثمّ لنؤكّد اِختلاف التّأويلات باِختلاف هذه الأمهدة رغم وحدة المادّة النّصيّة تدوينا وترتيلا. ونؤكّد اِستيعاب مصطلح التّأويل، في معناه المعاصر، لكلّ أشكال التّعامل مع المادّة النّصيّة. وهو ما يجعل مصطلحنا منفتحا على هذا الفعل لا باِعتباره آليّة بل باِعتباره منهجا، فهما، تأويلا في حدّ ذاته.
وسنقسّم هذا الكتاب إلى ثلاثة أبواب تختلف من حيث موضوع المقالة العقديّة، وإن كانت الرّؤى متشابكة متواشجة. فما يختصّ باللّه من المقالات سندرجه في باب الإلهيّات، وما يختصّ بالإنسان من مقالات سندرجه في باب الإنسانيّات، وما يختصّ بالآخرة ومقتضياتها سندرجه في باب الأخرويّات. وإدراج مقالة ما في هذا المفصل أو ذاك لا يرجع إلّا إلى هذا الاِعتبار، لذا قد يختلف هذا التّرتيب الّذي اِستعملناه في بعض مقالاته عن التّرتيب التّراثيّ كما أنّ مقالات كثيرة تتشابك بشكل يجعل فصل بعضها عن بعض متعسّرا وهذا ما قد يفسّر تكرار بعض الأسس اِنطلاقا من اِختلاف توظيفاتها بين مقالة وأخرى.
ولنا أن نشير منذ البداية إلى أنّ جملة هذه المقالات العقديّة مترابطة ترابطا كاملا عند كلّ الفرق والمذاهب المغربيّة. وترابطها هو الّذي ولّد سيادة الفكر الإسلاميّ. وقد نبعت هذه الرّؤية من تصوّر معمّق في بلاد المغرب جلّاه أبو عمّار عبد الكافي الوارجلاني في أواخر القرن الهجري السّادس اِستثمر فيه كلّ التطوّرات العقديّة الّتي سبقته قائلا إنّه "حصل لنا من المحدث الوجود والإيجاد، ومن الوجود والإيجاد القدم والحياة. ومن حصل له القدم والحياة حصل له العلم والقدرة. ومن حصل له العلم والقدرة حصلت له الإرادة والمشيئة. ومن حصلت له الإرادة والمشيئة حصل منه الفعل لأنّه محال فاعل ليس بشاء ولا شاء ليس بمريد ولا مريد ليس بقادر وقادر ليس بعالم وعالم ليس بحيّ وحيّ ليس بموجود. وقد تضمّن قولك "الله" جميع ما يتّصف به الباري سبحانه وهذا تفسير قول الله تعالى )اللهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُ الْقَيُومُ( (البقرة 2، 255) فالحيّ يتضمّن الصّفات والقيوم يتضمّن التّكليف والتّصرّف. فدلّ قولنا: الله إنّه قديم وإنّه حيّ وإنّه عالم وإنّه قادر وإنّه مريد وإنّه شاء وإنّه فاعل فهذه السّبع يقتضيها قولك "الله لا إله إلاّ هو الحي" ويقتضي قولك "القيوم" الفعل وهو الخلق والتّكلّيف وهو الأمر والنّهي ويقتضي الأمر والنّهي الطّاعة والمعصية وتقتضي الطّاعة والمعصية الثّواب والعقاب ويقتضي الثّواب والعقاب الجنّة والنّار والجنّة والنّار يقتضيان المصير[2].
ويتأسّس نظرنا في مقالات الإسلاميّين في بلاد المغرب على رؤية جديدة قوامها اعتبار مقالة الجزاء ثاني المقالات العقديّة بعد مقالة التّوحيد. وفي المقالتين يتّفق كلّ الموحّدين مسلمين ونصارى ويهود. وبما أنّ من الدّيانات الوضعيّة من أقرّ الثّواب والعقاب على كيفيّة من الكيفيّات وإن لم يثبت كونهما جنّة أو نارا تصبح مقالة الجزاء ثوابا أو عقابا، في فهمنا، أولى المقالات الدّينيّة بما أنّها غاية الموجود لأنّها كثيرا ما تصبح صيغة حياة ونمط وجود. وهكذا اِنطلاقا من التّاريخ المقارن للأديان نجعل مقالة الجزاء هي المقالة المركز في الفكر الدّيني في الكون توحيديّا كان أو وضعيّا حيّا أو منقرضا. وتضاف إليها في التّوحيديّات مقالة التّوحيد وتكون رديفا تابعا لمقالة الجزاء. وكلّ ما بينهما من إلهيّات وإنسانيّات وأخرويّات وسط لأنّه هو أيضا يستوجب ثوابا أو عقابا أي يشمله هذا المفهوم بشكل مباشر ومن هنا، واِنطلاقا من هذا الفهم كفّر الموحّدون بعضهم بعضا في كلّ المقالات. والحكم بالتّصويب أو التّكفير نابع من تصوّر الثّواب والعقاب وليس نابعا من التّوحيد بما أنّ التّوحيد مقولة مجرّدة أمّا الجزاء فتجسّده التّشريعات المقدّسة والبشريّة وبإمكان الإنسان أن يتمثّل هذا بذاك................
...............................
...........................


[1] هي أمهدة ثقافيّة حُوّرت متأثّرة بالمحليّ. والتّراث الإمازيغي مصطلح يشمل أيضا ما أنتجه الفينيقيّون والرّومانيّون والبيزنطيّون والونداليّون أثناء احتلالهم لشمال إفريقيا. وكثير من المؤرّخين والباحثين يقلبون هذا التّصوّر.
[2] أبو عمّار، الموجز، 1، 153.

كتاب: الفكر التّشريعي وأسس استمرار الإسلام في بلاد المغرب: مقتطف من المقدمة


الدكتور المبروك المنصوري: الفكر التّشريعي وأسس استمرار الإسلام في بلاد المغرب
Legislative Thought and the Continuity of Islam in the Maghreb
تونس، الدّار المتوسطية للنشر، 2011
http://www.mediterraneanpub.com/

تمهيد
بيّنّا في الكتاب الأوّل من هذا المشروع "تشكّل الفكر الإسلامي وتطوّره وانتشاره في بلاد المغرب" كيفيّة تشكّل الفكر الإسلامي وانتشاره في بلاد المغرب. ودرسنا في الكتاب الثّاني من ذات المشروع "الفكر العقدي وسيادة الإسلام في بلاد المغرب" مقوّمات الفكر العقدي في بلاد المغرب دراسة مقارنيّة باعتباره صانع سيادة الفكر الإسلامي في هذه البيئة. وسنحلّل في هذا الكتاب الفكر التّشريعي المغربي منطلقين من مصادرة قوامها أنّ الفكر التّشريعي أصولا وفروعا هو الذي صنع استمرار الإسلام في بلاد المغرب تصوّرا وممارسة. وليست المقالات العقديّة والمنظومات الفقهيّة في التّجربة الإسلاميّة منفصلة بل بينهما من الوشائج والارتباطات ما يظهر حتّى يبدو جليّا وما يدقّ حتّى يتخفّى فلا يكشف عنه إلّا تحليل متقصّ.
نشأت المقالات الإسلاميّة في المشرق مترابطة ولّدها الجدل المتبادل والتبنّي والإقصاء والاِنتماء والمنافرة، وكذا الأمر عند تطوّرها في بلاد المغرب تطوّرا جعلها ملتحمة بالعمران وأحواله اِجتماعا واِقتصادا وسياسة باِعتبارها من نتائج الأوضاع الرّوحيّة والمادّيّة والثّقافية. إنّ المقالة نتاج لأوضاع ثقافيّة صيغت لتؤسّس لدور حضاريّ معيّن، ولا يتغيّر الدّور الحضاريّ إلّا إذا انتهت الأوضاع الثّقافية الّتي تكوّنه. عندها يحلّ محلّه دور حضاري آخر تختلف فيه بنى ومؤسّسات وعلاقات ومنظومات ومفاهيم وتتواصل أخرى غيرها تغذّي حركة التّاريخ تغذية الأصول والرّوافد للمركز. ويقدّم علم الأصول قراءة من القراءات الممكنة للكتاب والسّنّة محورها تنزيل الأحكام الشّرعيّة في إطار الواقع المتحوّل إقرارا لحركيّة ثابتة في الخطاب الشّرعيّ الإسلاميّ. ويتّصل هذا العلم على صعيد النّظريّة والمنهج بعلم المناهج الّذي يبحث في الأدلّة الشّرعيّة تعريفا وترتيبا كما يدرس آليّات الاِستنباط وقوانين الأحكام ويعنى بالاِستدلال وقوانين الجدل والمناظرة ويهتمّ بفقه العلم الّذي يبحث في فلسفة التّشريع[1].
وأثّرت المقالات العقديّة في المذاهب الفقهيّة: الشّريعة، أصولا وفروعا. إذ أنّ التّواشج بين الجانبين في التّجربة الإسلاميّة عميق أدركه عدد كبير من مفكّري بلاد المغرب على اِختلاف مذاهبهم وثقافتهم وأصولهم. ولهذا الوصل بيان دقيق فيما ذهب إليه أبو يعقوب الوارجلاني متدرّجا في أصول البيان الدّينيّ ليصل الشّرعيّ بالعقديّ قائلا في مسائل الأئمّة العشرة "اعلم أن الله تعالى أرسل محمّدا r بالقرآن العظيم وفيه نبأ الأوّلين والآخرين وفيه الفقه في الدّين إلى يوم الدّين. فشرّع فيه أصول الفرائض وفوّض بيانها إلى الرّسول r قال الله U )وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نَزَلَ إِلَيْهِمْ( (النّحل 16، 44). وأطلق رسول الله r عقال المسلمين في التّفقّه في فنون العلم والأصلُ القرآنُ والسنّةُ فرعُه، والأصلُ السنّةُ والرّأيُ فرعُها. وجعل الرّأي حاكما على السنّة والسنّة حاكمة على القرآن فكثرت فنون الرّأي وهي على ثلاثة أوجه... وإلى هذه الفنون رجع اِختلاف النّاس في الكفر والإيمان والشّرك والإسلام والطّاعة والمعصية والفسوق والنّفاق والقول في أسماء الله U وصفاته U وأمثالها والقرآن"[2]. لهذا الفكر أسسه ومنطلقاته وله ما يميّزه عن غيره، ولكن له أيضا صلة دقيقة بأربعة من مفكّري الإسلام صرّح أبو يعقوب ببعضهم فيما صنّف وألمح إلى بعضهم الآخر: اِبن رشد والغزالي وابن عبد البر وابن حزم. هذه الحلقات الأساسيّة كانت تتفاعل في أقصى شمال بلاد المغرب: في شبه جزيرة الأندلس، وكان صداها يتردّد في أقصى جنوب هذه البلاد في واحات وارجلان وجبال نفوسة مرورا بسبتة وجربة خالقة بذلك اِستمرار الفكر الإسلاميّ في هذه البيئة.
ومرّ هذا التّأثير بمفاصل كبرى سنخضعها لنفس المنهجيّة المقارنيّة: منهجيّة التّشكّل والتطوّر لنتبيّن مواطن ثراء هذا الفكر التّشريعي. وسندرس كيف تجادل المغاربة في التّشريع أصولا وفروعا مؤسّسين لمنهجيّة جديدة في النّظر إلى الأصول سنقسّم فيها الأنظمة المسيّرة للعقل الأصولي الإسلامي إلى رموز وآليّات. ثمّ سندرس أثر هذه الرّموز والآليّات في الاختلافات المذهبيّة في ممارسة التّعبّد الإسلامي. وسنختار لذلك نموذجا دقيقا وهو ممارسة الصّلاة لنبحث في أركانها ومقوّماتها وكيفيّة نظر المغاربة إليها وكيفيّة توظيفها في صراعهم المذهبي الماديّ المباشر والفكري غير المباشر. ولكنّ نظرتنا الإيجابيّة إلى تراثنا الإسلامي فتحت الأفق إلى استيعاب كلّ هذه الاختلافات، فلم ننظر إليها على أساس أنّها اختلافات شقاق وفرقة، بل اعتبرناها اختلافات تكامل ورحمة، ونظرنا إليها نظرة إيجابيّة تسحب البساط من تحت أرجل دعاة الطّائفيّة والمذهبيّة، فاعتبرنا هذه الاختلافات جميعها هي المحقّقة لاستمرار الإسلام في في قلوب المغاربة وعقولهم، واستمرار الدّين في الوجدان وفي التّاريخ...............
...............................
...........................


[1] وليد خوري، مدخل إلى مناقشة مختصر المستصفى لابن رشد، 128.
[2] أبو يعقوب الوارجلاني، الدّليل والبرهان، 2، 95.

Tuesday, January 18, 2011

تونس من الاستقلال الأعرج إلى الثّورة المبتورة: حتى لا يعيد التاريخ نفسه


تونس من الاستقلال الأعرج إلى الثّورة المبتورة: حتى لا يعيد التاريخ نفسه
... عندما تترك جامع الزّيتونة خلفك وتخرج من مدينة تونس العتيقة يصادفك مباشرة تمثال ابن خلدون في وسط شارع الحبيب بورقيبة. يقع التّمثال في الوسط بالضبط بين سفارة فرنسا يمينا والكنيسة يسارا. وفي ذات الشّارع توجد فنادق، بنوك، مركّبات تجاريّة فاخرة، ووزارة الدّاخليّة في آخر الشّارع على اليمين من جهة سفارة فرنسا، ووزارة السّياحة في آخر الشّارع على اليسار من جهة الكنيسة. وفي آخر الشّارع بما يشبه التّناظر مع تمثال ابن خلدون توجد ساعة تونس (ساعة 7 نوفمبر سابقا). هذه المكوّنات الفسيفسائيّة المتناقضة تناقضا صارخا (جامع الزيتونة، ابن خلدون، سفارة فرنسا، الكنيسة، وزارة الدّاخليّة، وزارة السّياحة، شارع بورقيبة وساعة بن علي) هي تعبير معماريّ وثقافيّ وتاريخيّ عفويّ عن واقع تونس منذ الاستقلال الأعرج إلى ثورة الشّعب.
تونس من الاستقلال الأعرج إلى ثورة الشّعب:
هذا التّناقض الموجود في جملة هذه المكوّنات ما هو سوى تعبير عن التّناقض الصّارخ الّذي عاشته تونس في تاريخها الحديث. ولكي لا نغوص في التّاريخ كثيرا نقول إنّه بين اغتيال الزّعيم الوطني النّقابي فرحات حشّاد في 5 ديسمبر 1952 واغتيال الزّعيم الوطني السّياسي صالح بن يوسف في 2 جوان 1961 تمّت صياغة تاريخ وطنيّ مفكّك مليء بالمؤامرات والخيانات والنّفاق والاغتيالات والتّصفيات ولّد نمطا سياسيا وثقافيا واقتصاديا وفكريا يحافظ على المصالح الاستعماريّة في الفترة ما بعد الاستعماريّة عبر استمالة النّخب الوطنيّة وشحنها ماديّا وثقافيّا وفكريّا بعد تصفية النّخب الوطنيّة الحقيقيّة أو إقصائها أو تهجيرها.
ومن المعلوم اليوم أنّ الحركة الوطنيّة التّونسيّة قد ناضلت نضالا مريرا من أجل استقلال تونس ودفعت شهداء كُثرا. وبدأ المنعرج الحاسم في تاريخها مع بداية الحرب الباردة، تحديدا سنة 1948. منذ تلك السّنة أحسّت فرنسا أنّ الواقع سيتغيّر بكيفيّة أو بأخرى عاجلا أو آجلا. وبدأت تدرس الوضع بشكل معمّق وتبحث عن شخص مناسب لتسلّمه البلاد. وأُعلِن عن مفاوضات بداية من سنة 1950 لم تُتكشف كلّ تفاصيلها بعد، وحتّى ما كُشف منها فإنّه لم يُدرس بشكل دقيق ومعمّق من المؤرّخين التّونسيّين المعاصرين بسبب طابعهم البحثيّ المحافظ والمساير للخطّ العام للاتّجاه السّياسي في تونس، من جهة، وبسبب انعدام الدّراسات النّقديّة ما بعد الاستعماريّة في الثّقافة العربيّة المعاصرة من جهة أخرى. وقد كنت بيّنت ذلك في كتابي "الدّراسات الدّينيّة المعاصرة من المركزيّة الغربيّة إلى النّسبيّة الثّقافيّة". فليُنظر هناك[i].
وبعد أن بلغ التّفاوض بين تونس وفرنسا حول الاستقلال مراحل متقدّمة، وحشّاد مبدئيّا هو الزّعيم النّقابيّ الشّعبيّ الأكبر فإنّ إزاحته كانت ضروريّة لمواصلة الوجود الفرنسي في تونس بعد الاستعمار وتمّ تدبير اغتياله في قضيّة لم تُكشف كلّ تفاصيلها إلى اليوم. وحتى ما كُشف فإنّه لم يُضف جديدا ذا بال.
وفي 29 مايو 1955 أُعلِن عن صياغة ملفّقة من استقلال شكليّ، وهي سبب التّخبّط والمخاض الّذي وقعت فيه تونس طول تاريخها الطّويل، لأنّ مشروع الاستقلال الفعليّ يكتمل بعد. كان الأمين العام للحزب الحر الدّستوري في تلك الفترة الزّعيم السّياسي الوطني صالح بن يوسف. وبما أنّه قد تمّ تدبير "الاستقلال بشكل استسلاميّ" حسب بعض المجاهدين والمناضلين أيّامها، وكان نصرا عظيما عند من تدثّر بدثار فرنسا وما حاكته من مؤامرة، فقد رفض صالح بن يوسف هذه الصّيغة من الاستقلال الشّكلي، بينما قبلها بورقيبة وعدد من العناصر داخل الحزب الدّستوري وأدّت إلى شقّ صفّ البلاد فيما يُشبه الحرب الأهليّة. ورفض الجناح الوطنيّ المناضل الاستسلام أو تسليم أسلحته باعتبار أنّ ما تمّ تدبيره من بعض العناصر الحزبيّة مع سلطة الاحتلال هو استسلام وليس استقلالا، وانّ الاستقلال الحقّ آت ولم تبق عنه سوى بضع خطوات وتخرج فرنسا بشكل نضاليّ من تونس. إلّا أنّ إرادة العناصر المدعومة من فرنسا انتصرت وتمّ الاتّفاق على استقلال أعرج تُحافظ فرنسا بموجبه على كافّة امتيازاتها في تونس. وقد رفضه كثير من المجاهدين فأُعدم عدد كبير منهم وتمّت ملاحقة بقيّتهم واحدا بعد آخر. ثمّ دبّر نظام بورقيبة اغتيال الزّعيم السّياسي الوطني صالح بن يوسف بعد أن رفض هذا الاستقلال الأعرج ولجأ إلى ألمانيا في 2 جوان 1961[ii].
وبعد أن استتبّ الجوّ للنّظام السّياسي الجديد في تونس واطمأنّت فرنسا على مصالحها الاقتصاديّة والثّقافيّة والسّياسيّة قرّرت الجلاء العسكريّ نهائّيا عن تونس من آخر مكان محتلّ وهو مدينة بنزرت. وبما أنّ النّاصريّة الثّوريّة كانت في تلك الأيّام في أوج عزّها، والثّورة الجزائريّة ذات المليون شهيد تشتعل والجبهة الدّاخليّة غير مستقرّة بعد، وقد بدا أنّ استقلال تونس كان استسلاما مُدبّرا أو استقلالا صوريّا بلا دم، وهذا ما يهزّ صورة الزّعامة البورقيبيّة وتاريخها "النّضاليّ"، وحتّى تُخترع الأسطورة الدّعائيّة عن "المجاهد الأكبر"، فإنّ بعض الّذين عايشوا تلك الفترة يروون أنّه تمّ تدبير حادثة الجلاء عن بنزرت بعد شهر ونصف تقريبا من تصفية الزعيم صالح بن يوسف ( تحديدا بين 19 و 22 جويلية 1961) بتنسيق بين بعض العناصر التي أمسكت السّلطة في تونس والاستعمار الفرنسي حتى يتقوّى النّظام التّونسي سياسيّا ورمزيّا، رغم ما الدّم الّذي أريق من أجلها.
بُني تاريخ تونس الحديث زمن الاستقلال، إذا، على انتهازيّة ووصوليّة حزبيّة بغيضة، فقد سرق الحزب الحرّ الدّستوري ثورة الشّعب على فرنسا أوّلا ولفّق استقلالا أعرج ثانيا. نتمنّى أن لا يتكرّر ذلك اليوم لأنّها قد لاحت بوادر انتهازيّة سياسيّة في ثورة البوعزيزي من جديد.
ثورة البوعزيزي وخطر الانتهازيّة والوصوليّة
لِمَ العودة إلى هذه اللّحظة التّأسيسيّة في تاريخ تونس؟ الظّاهر من مواقف السّياسيّة الّتي تمّ الإعلان عنها إلى اليوم أنّ كلّ الأحزاب السّياسيّة على السّواء قد تميّزت بانتهازيّة مقزّزة مشابهة لتلك الّتي حدثت بعد الاستقلال الصّوري في أواسط الخمسينيّات بالضّبط. فقد سمعنا في أغلب التّصريحات الّتي أبدها ممثّلون رسميّون عن الأحزاب السّياسيّة المعارضة راديكاليّا أنّهم مستعدّون للعمل مع بن علي بعد خطابه الأخير، وقد صّرح بعضهم بذلك في حلقة تلفزيّة عرضتها التّلفزة الوطنيّة التّونسيّة مساء الخميس 13 جانفي 2011، وفي بعض الفضائيّات الأخرى. ولكنّ الشّارع رفض هذه الانتهازيّة وخرج في مظاهرات "خبز وما وبن علي لا" فسقط شهداء، وأسقطوا بن علي. وفي مساء الجمعة بعد أن صرّح الوزير الأوّل محمّد الغنّوشي بتولّيه الرّئاسة حسب الفصل 56 من الدّستور، وعبّرت بعض المعارضة الرّادكاليّة أيضا عن رغبتها في الانضواء تحت رئاسة محمد الغنوشي والعمل معه "إذا أبدى نوايا صادقة في الإصلاح". ومن جديد رفض الشّارع وصاح أهالي مدينة القصرين "يا شعب ثور ثور، انقلاب ع الدّستور"، ومن جديد سقط شهداء وأسقطوا الغنوشي وطُبّق الدّستور.
ومن جديد ظهرت المعارضة الرّاديكاليّة وعبّرت عن رغبتها في العمل مع الغنوشي لتشكيل حكومة وحدة وطنيّة بنفس الطّريقة ونفس الأشخاص. ثلاثة أحزاب فقط ثبتت على مواقفها الرّافضة لأشكال الانتهازيّة والوصوليّة والحلول التّرقيعيّة وعبّرت صراحة عن وجوب التّحوّل الفعلي بالنّظام السّياسي التّونسي إلى الدّيموقراطيّة التّعدّديّة فتمّ إقصاؤها، مبدئيّا، من حكومة الوحدة. ومن هذه الأحزاب حزبان مُهجّران وهما حزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة بقيادة المنصف المرزوقي من باريس وحزب النّهضة بقيادة راشد الغنوشي من لندن، وحزب العمّال بقيادة حمّة الهمّامي من تونس. وكلّ ما حدث هو تغيير المعارضة الكرتونيّة التّابعة القديمة بأخرى جديدة، وصارت هذه المعارضة الجديدة هي الّتي تدافع عن التّوجّهات الجديدة، وهو ذات الدّور الّذي لعبته المعارضة القديمة.
كانت الثّورة ثورة شعبيّة بامتياز، ولم يستطع أيّ حزب من الأحزاب التّونسيّة طوال حكم بن عليّ أن يدفع الشّارع التّونسيّ إلى التّحرّك. كانت هناك إضرابات نقابيّة كبرى وخاصّة إضراب أساتذة التّعليم العالي في سنة 2005 ورغم أنّه استمرّ أكثر من شهر من الاعتصامات والخطابات أمام مقرّ الاتّحاد العام التّونسيّ للشغل وفي الاتّحادات الجهويّة فإنّ عددا قليلا جدّا من أفراد الشّعب التّونسي قد سمعوا به، ولم يكن له أيّ صدى في الخارج. وهو الإضراب الوحيد الّذي كان بإمكانه أن يحرّك الشّارع فعلا في سنة 2005 لأنّه كان مدعوما من الطّلبة التّونسيّين الّذين تفهّموا دواعي الإضراب وساندوه، ولو قُدّر له أن يستمرّ لكان أدّى إلى انتفاضة شعبيّة مماثلة لما شهدناه اليوم ولكنّ فضّ الإضراب بعد شهر دون نتائج ملموسة هو الّذي أشفل هذا التّطوّر.
ثمّ إنّ الدّيموقراطيّة الّتي تُناشدها الأحزاب السّياسيّة تفترض التّداول السّلمي على السّلطة. ومن المعلوم في تونس أنّ أغلب الأحزاب السّياسيّة هي أحزاب أشخاص وليست أحزاب وطنيّة. وهناك دليلان على هذا الأمر: الأوّل أنّ أغلب رؤساء الأحزاب هم من مؤسّسي هذه الأحزاب، وهم في رئاسة هذه الأحزاب منذ أكثر من ربع قرن تقريبا. ولم تجرِ في أيّ حزب انتخابات حرّة ونزيهة لاختيار أمين عام للحزب بشكل ديموقراطي. والدّليل الثّاني أنّ الشّعب التّونسي لا يسمّي الأحزاب بأسمائها بل بأسماء "مالكيها" فيقال "حزب فلان" و"حزب علّان". حتى الأحزاب الراديكاليّة في أقصى اليسار أو أقصى اليمين تشملها هذه الظّاهرة.
النّخب، الأحزاب، والشّعب: "الشّعب فاتنا"
قبل أيّام من إحراق البوعزيزي لنفسه كان التلفزيون التّونسي يعرض حلقات مسجّلة من مداولات مجلس النّواب. وكان من بين تلك الحلقات مناقشة مع وزير الشّؤون الدّينيّة بوبكر الخزوري متعلّقة بصوت الأذان: "الأذان يسبّب فوضى صوتيّة نظرا إلى انتشار المساجد في كلّ مكان وهذا يؤثّر في تركيز الطّلبة والتّلاميذ والعاملين، وعلى وزارة الشّؤون الدّينيّة أن تتّخذ الإجراءات اللّازمة" هكذا قالت إحدى نوّاب حزب بن علي. فكان ردّ وزير الشّؤون الدّينيّة في بلد عربي مسلم ينصّ الفصل الأوّل من دستوره على أنّ "تونس دولة حرّة مستقلّة الإسلام دينها والعربيّة لغتها والجمهوريّة نظامها" أنّه سوف يسخّر كلّ طاقات وزارته للحدّ من هذا "التّلوّث الصّوتي" الّذي يُحدثه الأذان" حسب عبارته. وقد أصدر فعلا تعليمات بخفض صوت الأذان وعدم بثّ القرآن في مكبّرات الصّوت وعدم بث الأذان المسجّل. ولم يردّ أحد النّوّاب الموجودين، المفترض أنّ أغلبهم مسلمين، على النّائبة ولا على الوزير، ولم يردّ مفتي الجمهوريّة أيضا. بينما انعقدت مجموعات على الفايسبوك شعارها "لا لخفض صوت الأذان" بلغ عدد مشتركيها 25 ألفا في يوم واحد. وكان هذا أوّل تحرّك شعبيّ حقيقيّ. وهذا ما دفع كثيرا من الأكاديميّين والسّياسيّين، إلى التّعبير بذهول "الشّعب فاتنا": لقد تجاوزنا الشّعب، لأنّ النّخب كانت تضيّع وقتها في نقاشات أكاديميّة فضفاضة حول قضايا لا علاقة لها بالواقع الاجتماعي والثّقافي والسّياسي التّونسي. وحتى في آخر حلقة لمجلس النّوّاب الّتي دعا إليها بن علي لدراسة الوضع المشتعل في البلاد كان أحد النّوّاب يتحدّث عن "العنف في المدارس"
العود إلى ابن خلدون: حتى لا يُعيد استقلال الأعرج نفسه
من المفترض أنّه لا يوجد أيّ شخص في تونس لا يعرف ابن خلدون وجزءا من أفكاره. ومن المفترض أنّه لا يوجد أيّ تونسيّ حاصل على شهادة الباكلوريا (الثانويّة العامّة) لم يقرأ نصوصا من مقدّمة ابن خلدون وخاصّة نصّ: العدل أساس العمران. ولكنّ أكثر دولة عربيّة يقرأ شعبها ابن خلدون ويردّدون عبارته "العدل أساس العمران" منذ الصّفّ الثّالث ابتدائي هي أكثر دولة يغيب فيها العدل ويُغيّب فيها فكر ابن خلدون، رغم أنّ تمثاله يتوسّط العاصمة التونسيّة.
وسؤال ما المطلوب الآن؟ هو سؤال ملحّ حقّا لأنّ هذه هي الثّورة الشّعبيّة الحقيقيّة الأولى في التّاريخ العربي المعاصر وهذا ما دفع صحيفة فرنسيّة إلى عنونة افتتاحيّتها بعنوان تهكّميّ مثير جاء فيه "هذا ممكن حتّى في دولة عربيّة". ولكي لا تتسابق الأحزاب السّياسيّة إلى الرّكوب على الحدث واقتسام الغنائم والمناصب على حساب دماء الشّعب، بانتهازيّة مقزّزة ووصوليّة مملّة تماما كما حدث في الاستقلال الأوّل (خاصّة أنّ كلّ النّاس صاروا مناضلين اليوم حتى أولئك الّذين لم ينطقوا بكلمة "لا" مطلقا طوال حكم بن علي، فالمناضل الحقيقي هو من قال هذه الكلمة في وجه النّظام أثناء قيامه، وليس بعد إنهياره) يجب أن تُتّخذ إجراءات واضحة ودقيقة تتجاوز الحلول التّرقيعيّة والوعود بالدّيموقراطيّة الّتي أغرق بن علي البلاد بها عندما استولى على الحكم عام 1987. ومن هذه الإجراءات:
1- تحويل النّظام السّياسي إلى نظام برلماني بدل النّظام الرّئاسي لأنّه نظام ثبت فشل النّظام الرّئاسي في كلّ الدّول العربيّة بلا استثناء.
2- الفصل الفعلي بين السّلطات الثّلاث بشكل عمليّ وملموس وتحديد آليّات اقتراح القوانين والتّشريعات وآليّات مناقشتها ومراجعتها وآليّات إقرارها وآليّات تنفيذها وآليّات مراقبة التّنفيذ وآليّات التّحاكم عند وقوع التّقصير.
3- التّحرير المطلق للإعلام وللفكر وللإنسان بكافّة الطّرق والوسائل.
4- إعادة كتابة دستور جديد للبلاد يضمن تحقيق الخطوات السّابقة وإثبات بنود تعصمه من التّحوير الفوضوي والتّعدّي عليه.
5- التّنصيص اللّفظي الصّريح على المساءلة والمحاسبة لكلّ المسؤولين ممهما اختلفت مناصبهم.




[i] المبروك المنصوري، الدّراسات الدّينيّة المعاصرة من المركزيّة الغربيّة إلى النّسبيّة الثّقافيّة: الاستشراق، القرآن، الهويّة والقيم الدّينيّة عند العرب والغرب واليابانيّين، تونس، الدّار المتوسّطيّة للنّشر، 2010.
[ii] انظر مقال حسونة المصباحي، " ظروف وملابسات تصفية الزعيم التونسي صالح بن يوسف بعد مرور أربعين سنة على اغتياله في فرانكفورت" جريدة الشّرق الأوسط، الاحـد 09 جمـادى الاولـى 1422 هـ 29 يوليو 2001 العدد 8279.

Friday, January 7, 2011

النسبية الثقافية وشروط التحديث الفكري: قراءة في كتاب الدّراسات الدينية المعاصرة للدكتور المبروك المنصوري



النسبيّـة الثـقافيّـة وشروط التحديث الفكري العربيّ

إنّ أزمة الفكر العربي المعاصر هي في أبرز مستوياتها أزمة في المفاهيم التيّ تعدّ من الآلات الإدراكيّة والإجرائيّة المركزيّة في تحليل العلوم الإنسانيّة ومباشرة قضاياها ثقافيّها واجتماعيّها وسياسيّها واقتصاديّها ، فليس المفهوم إلاّ ضربًا من الفهم مخصوصًا للقضيّة ووجها من وجوه تمثّلها فتحليلها استقراء وتصوّرا واستنتاجًا .
وقد لاذ بعض المفكّرين ـ وقد أُشكلتْ عليهم المفاهيم في بيئتها الغربيّة ـ بمقولة لسانيّة ردّوا بمقتضاها الأمر إلى عجز اللغة العربيّة عن استيعاب المفاهيم واستيعاب نظمها الدلاليّة ، فالعربيّة عند هشام جعيّط " فقيرة جدّا في كلّ ما هو مصطلحات في الفلسفة والعلوم الإنسانيّة التي انتشرت في الغرب لكثرة استعمالها وكثرة استيعابها " (1)، وعبّر محمد أركون عن نفس التصوّر بقوله :" إنّ مفاهيم خطاب وأسطورة وبنية لم يفكّر فيها بعد كما ينبغي في الفكر العربي المعاصر ولن تؤدّي المناقشة إلى أيّة نتيجة صالحة إذا تمسّك هذا الطّرف المذكور بأحكام فقه اللغة التقليدي والتاريخ الرّوائي" (2)
بمثل هذه السطحيّة في التناول و التبسيط المخلّ بالعلميّة في الطرح والعجز عن استكناه حقيقة المفاهيم الغربيّة ومدى ملاءمتها للفضاء الإسلامي بشروطه الثقافيّة والحضاريّة ، لا غرابة أن يصير الفكر العربي المعاصر إلى أزمة شموليّة تعبّر عنها بكلّ وضوح أغلب الكتابات العربيّة التي توصف تجوّزًا بالأكاديميّة ، وينعت أصحابها بالتنويريين.
ولم يمنع استفحال هذه الأزمة الفكريّة من بروز بعض الكتابات الجادّة التي تنمّ عن عمق في التناول ودقّة في الطرح ونجاعة في تحليل القضايا واستيعاب أبعادها المختلفة ، ومن أبرز هذه الدراسات التي تهيّأ لها النشر والانتشار أخيرًا كتاب الدكتور المبروك المنصوري(3) الموسوم بـ " الدراسات الدينيّة المعاصرة من المركزيّة الغربيّة إلى النسبيّة الثقافيّة "(4)
1/ كتاب الدراسات الدينية المعاصرة بنيةً وموضوعًا
تطرّق الدكتور المنصوري في مستهلّ الكتاب إلى التحوّلات الجذريّة التي أثّرت تأثيرا مباشرًا وبالغًا في العلوم الإنسانيّة ومفاهيمها في الأوساط الأكاديميّة الغربيّة ، فدفعتها إلى مراجعة أنساقها التحليليّة وطرائق قراءتها للوقائع وتأصيل نظم معرفيّة بديلة ، وقد تمثّلت هذه التحوّلات في :
ـ أوّلا :أفول الدّاروينيّة وانهيار مرتكزاتها فأبعادها فتأثيرها في الأوساط العلميّة الغربيّة .
ـ ثانيًا : تنسيب المقاربات الباحثة في الظواهر الثقافيّة ، ذلك أنّ الاعتقاد بوجود حقيقة تاريخيّة مطلقة للظواهر الثقافيّة لا يعدو أن يكون وهمًا ، وكرّست الفلسفات ما بعد البنيويّة هذا الطرح واستثمرته في اشتغالها على الأنساق الفكريّة المختلفة.
ـ ثالثا: استتباعًا لما تقدّم ، تمّ إعادة النظر في المقاربات الوضعيّة الدينيّة.
ـ رابعًا : تحوّل مركز الثّقل في كتابة التاريخ من أوروبا إلى البلدان الآسيوية في المحيط الهادي من اليابان شمالا إلى استراليا جنوبًا .
1ـ 1 : القسم الأول : الاستشراق والمركزيّة الغربيّة : التحوّلات
1ـ 1ـ2 : الفصل الأول : الاستشراق وما بعد الحداثة : الغرب والفكر الآسيوي
استثمر الدكتور المنصوري التحوّلات الصميميّة الآنف ذكرها والتي مثّلت قطائع معرفيّة مع تقاليد البحث السائدة في العلوم الإنسانيّة في تحليل العلاقة بين الغرب والفكر الآسيوي باحثًا في خصوصيات الاستشراق ما بعد الحداثوي ، فأشار إلى أنّ الدراسات الاستشراقيّة عرفت تحوّلات جذريّة في النصف الثاني من القرن العشرين وهو المعروف بعصر ما بعد الاستعمار ، إذ صاحب حركة الاستقلال الوطني في كثير من الدوّل وعي بأهميّة الفكاك من التبعيّة الثقافية للغرب وتأسيس نماذج وطنية قادرة على استيعاب مفاهيم الهويّة الثقافية والحضارية و مواجهة مخاطر الاستيلاب التي نزع الغرب إلى توطيدها وترسيخها إبّان الحقبة الاستعماريّة في المجتمعات المستعمَرة مؤسساتٍ وأفرادًا ، كما أسهمت التيارات الفلسفيّة ما بعد الحداثويّة في تعرية الاستشراق الغربي التقليدي والإطاحة بأغلب رؤاه السّاعية إلى تنميط الشرق وجعله مثاليّا روحيّا متوحّد الجوهر مطلق الحقيقة ثابت الماهيّة متعاليا "
وما كان لحركة ما بعد الحداثوية أن تحقق ذلك لولا وعيها بالأزمة التي استفحلت في الفكر الحداثوي نفسه وعجزه عن تمثّل حقيقة المعرفة الإنسانيّة بما هي معرفة متشظية نسبيّة لا تثبت على حال في ضوء سرعة التغيّرات التي تكتنف مقولات العلم والعقلانيّة .
لقد تجاهلت الفلسفات الغربية لمدّة طويلة الفكر الشرقي واعتبرته هامشيّا نمطيّا يفتقد لإمكان الفعل والتأثير في حركة الفكر الكوني ، لذلك دأبت المرجعيّات الغربيّة على إقصاء الفكر الشرقي باعتبار عدم انتمائه للتراث الإغريقي الروماني .
لكن هذا الوضع تغيّر جذريّا بعد الحقبة الاستعماريّة إذ كشفت العديد من الدراسات الغربية التقليديّة عن ضرب من المشاكلة والمشابهة بين الأسس التي قامت عليها تيّارات الفكر ما بعد الحداثوي الغربي والفكر الآسيوي القديم ، وهو ما انعكس بشكل واضح في الممارسات الغربيّة المؤسسيّة منها والفرديّة من خلال الإقبال على "التعاليم البوذيّة والطّاويّة والزينيّة وغيرها من الفلسفات الدينيّة الشرقيّة "(4) .وأشارت ذات المراجع إلى انسراب الفكر الآسيوي ونفاذه في أعمال الكثير من الفلاسفة الغربيين لعلّ من أبرزهم هايدغير الذي أفاد من أعمال سوزوكي عن الزينيّة (5)
أمّا مظاهر الانسراب فلم تقتصر على مجال بعينه ، إنّما انسحبت على كثير من المجالات لعلّ أهمّها المستوى اللساني حيث بيّنت التحليلات أنّ مقولة التراكب في التصوّرات البشريّة وأثرها الحاسم في تظليل الأفهام الساعية إلى إدراك الظواهر المختلفة ـ وهي مقولة مركزيّة في التيار التفكيكي ما بعد الحداثوي ـ تجد صداها في الفكر الآسيوي وخاصّة مع مدرسة ماضيمكه التي ركّزت على كشف المقولات اللّغوية باعتبارها صناعة ثقافيّة .
وأشار الدكتور المنصوري في سياق متّصل بأثر الفكر الآسيوي في الدّراسات الغربيّة إلى قضيّة تشظّي المعنى والعدميّة التي ارتبطت بها المدارس التفكيكيّة ما بعد الحداثويّة مبيّنًا أنّها ضرب من المماهاة مع صياغة المفكّر البوذي ناقارجنه رغم تباين النتائج المتحققة في المقاربتين ، فبين العدميّة التي كرّسها الفكر الغربي وإعادة بناء الذّات وتأصيلها في فكر ناقارجنه بون شاسع مشوّه لجوهر التصوّر وأنساقه .
ويخلص المبروك المنصوري إلى مقاربة غاية في الدقّة والطرافة والجدّة في آن ، إذ كشف أنّ الفكر الغربي الذي صاغ تاريخًا راسخًا في بخس المرجعيات الفكرية غير المنضوية تحت لواء المركزيّة الغربيّة حقّها ما فتئ يسعى إلى الالتفاف على هذه الحقائق من خلال الادّعاء بأنّ الفكر الآسيوي لم يتهيّأ له تحقيق تحوّلات جذريّة والإسهام في الفكر الكوني إلاّ بعد التقائه بالفكر الغربي والنهل من معينه ، فكلّ ما حقّقه من نجاحات إنّما تعود إلى تكيّفه مع المركزيّة الغربيّة ، وهو تحليل استشراقي جديد مخادع ، أمّا المفكّرون الآسيويون فإنّهم تمكّنوا من قلب المعادلة وذلك باستثمار ما يرونه مفيدا من الأفكار الغربيّة في البيئة الآسيويّة ونبذ ما يهدّد هويّتهم الحضاريّة والثقافيّة .
لقد أفضت هذه التحوّلات الجذريّة الحادثة على أكثر من مستوى وفي أكثر من جهة إلى أفول المركزيّة الغربيّة ونهاية الاستشراق الآسيويّ عمليّا خاصّة بعد انتقال مركز الثقل الاقتصادي والاجتماعي إلى الفضاء الآسيوي ، وبروز الفكر الآسيوي بوصفه ندًّا للفكر الغربي ، فأصبح محاورًا له مؤثّرا فيه وهو ما يفسّر انفتاح الغرب على ثقافة الآخر الآسيويّ و تفهّم خصوصياته بعيدًا عن النظرة الفوقيّة المتعالية التي طبعت تعاملاته لحقبة طويلة. فهل مسّت هذه التحوّلات الاستشراق المهتمّ بالثقافة العربيّة الإسلاميّة؟
1ـ1ـ3 : الاستشراق الجديد والدراسات القرآنيّة : الغرب والفكر الإسلاميّ في الألفيّة الثالثة.
يختلف المجال الفكري الإسلامي عن المجال الفكري الاستشراقي سليل التراث اليهودي المسيحي اختلافاً نوعيّا ، وذلك على أكثر من صعيد ، فالإسلام يقدّم نفسه بوصفه مفارقًا لليهوديّة والمسيحيّة بديلاً عنهما، متجاوزًا لهما ، فهو دين نهائي خاتمٌ لعهود النبوّة، استوت فيه نظريّة الخلق وتحدّدت بمقتضاه العلاقة بين الخالق والمخلوق ، وتمكّن من تأسيس حضارة عظيمة على مجال جغرافيّ كونيّ ، فوعاه الغربيّون على أنّه مهدّد فعليّ لحضارتهم منذر بتلاشيها .
والتبس الاستشراق الناظر في الحضارة الإسلاميّة بهذه المعطيات التي تخمّرت لأحقاب في الذهنيّة الغربيّة وكرّستها المرجعيّات اللاهوتية المختلفة ، لذلك شكّلت هذه المنطلقات مصادرةً على النتائج وصار الاستشراق إلى عملٍ دائريّ غاياته تحدّد منطلقاته ، فكانت غايته القصوى هدم المرتكزات التي قام عليها الإسلام وتقويض ثوابته ، لذلك لم تخرج الدراسات الاستشراقيّة من دائرة التشكيك في الإسلام واعتباره دينًا وضعيًّا أنشأه المتنبّئ محمد العربي موظّفًا التراث اليهودي والمسيحي الذي اطّلع عليه أثناء رحلته إلى الشام ، واعتبار القرآن نصًّا بشريًّا تاريخيّا نسجه خيال هذا المنبّئ وترك لأصحابه مهمّة صياغته النهائيّة ، وعَدِّ العبادات الإسلاميّة نسخة مستعادة من الطقوس اليهوديّة والمسيحيّة ، واعتبار العلوم الإسلاميّة ترجمات مشوّهة للتراث الإغريقي ، فليس الإسلام إذن إلاّ حركةً تاريخيّة شكّلتها الهمجيّة البدويّة العربيّة موظّفة سطوة السيف حاثّة على القتل والفتك.
إنّ القرآن يمثّل جوهر الفكر الإسلامي ودعامته الرّئيسيّة والمنطلق الأسّ في تشكيل ثوابت الحضارة الإسلاميّة بمختلف أبعادها الدينيّة والثقافيّة والاجتماعيّة ، لذلك بات البحث في نظرة الاستشراق الجديد لهذا النصّ المؤسّس أمرًا ضروريّا للكشف عن خصائص هذا الاستشراق وضبط آليّاته المنهجيّة وتحديد سقوف فحصه للتراث الإسلامي ومدى استجابته لشروط الموضوعيّة والإنصاف .
وأشار الدكتور المنصوري ـ في هذا الصّدد ـ إلى أنّ النظريات الاستشراقيّة في تعملها مع النصّ القرآني لم تفارق منهجيتين :
ـ المنهجيّة النقديّة التاريخية التي كرّستها أعمال الباحثين الألمان في عملهم على التوراة والإنجيل وما توصّلوا إليه من نتائج تقرّ بالطابع التاريخاني البشري لهذين الأثرين الدينيين بحكم طول فترة التدوين من جهة وتدخّل الدّوائر الدينيّة في تحديد المادّة المدوّنة من جهة أخرى ، وقد سعى كريستوف لكسنبرغ إلى اعتماد هذه المنهجيّة في مقاربة القرآن الذي لم ير فيه إلاّ عملاً بشريًّا تطوّر تاريخيّا بحكم انتقاله من المرحلة الشفويّة إلى المرحلة المكتوبة مع ما رافق هذا الانتقال من إشكاليّات في مستوى الجمع والترتيب والتنقيط .
ـ المنهجيّة القائمة على المعطيات الفيلولوجيّة : التي استندت إلى الخصائص اللغويّة للتّوراة والإنجيل بحكم أنّهما كتابان يتّسمان بـ"التجميع" اللساني حيث تتعاضد العبريّة والأراميّة والسريانية في تدوين التوراة ، أمّا الإنجيل فلم يبق منه إلاّ نسخ مترجمة إلى الإغريقية والسريانية فاللاتينية بعد أن ضاعت الأصول الأراميّة .
وسعى روّاد هذه المنهجيّة إلى تطبيقها على القرآن وإثبات تضمّنه لمعطيات لسانيّة تنتمي إلى اللغات السابقة والمحايثة للغة العربيّة ، وقد أفادوا من الإلماعات العرضيّة التي وردت في كتب المفسّرين القدامى الذين ذهبوا إلى " التثاقف" بين لغة القرآن ولغات الجوار ، وهو رأي لا يعضده أيّ دليل علميّ حتّى عند هؤلاء المفسّرين.
هذه المواقف تمّ استثمارها بشكل مختلف مع الاستشراق ما بعد الاستعمار لتظهر في مقاربة فونتر ليلنق الموسومة بـ"القرآن أور" ، وهي تتلخّص في كون القرآن نصًّا جامعًا للتراث اليهودي المسيحي وهي نظرية لم تصمد كثيرا أمام الدّراسات القرآنيّة التي رأت فيها تجنّيًا على الحقيقة القرآنيّة وتزييفًا للبنية النصيّة . كما ظهرت مع الباحث جون فانسبرا الذي اعتبر أنّ القرآن لا يزيد على كونه تداخلاً بين المقاطع المؤلّفة في أزمنة مختلفة، فمكوّناته خلوٌ من أيّ انسجام داخليّ وتناسق صميميّ كما ذهب كلّ من مايكل كوك وباتريسيا كرونه إلى الطعن في مصداقيّة الوثائق العربيّة الواصفة للقرآن تنزيلاً وتدوينًا واستعاضا عنها بوثائق طغت عليها روح اليهوديّة المسيحيّة المعادية بطبيعتها للإسلام.
وتولّدت من رحم هذه المقاربات المتّفقة في عدائها للإسلام مقاربة كريستوف لكسنبرغ من خلال كتابه" قراءة سريانيّة أراميّة للقرآن : مساهمة في تفسير لغة القرآن "
وقد أقام مقاربته على جملة من الادّعاءات منها:
ـ القرآن "كتاب تراتيل طقسيّة مسيحيّة كانت تتلى في القدّاس وتستخدم في الكنائس المسيحيّة في سوريا" (6)
ـ القرآن مزيج لغويّ من العربية والسريانية والأراميّة ، وهو ما يفسّر ظهور مبحث "غريب القرآن" .
ـ محمد مبشّر مسيحيّ ، لكن تمّ تحريف دعوته التبشيريّة لتصبح دينًا قائم الذّات انطلاقًا من القرن التّاسع.
وبيّن الدكتور المنصوري في معرض تحليله لهذه المقاربة أنّها لا تصمد أمام البحث العلمي الرّصين منطلقًا بدحض المنطلقات اللغويّة التاريخيّة التي سوّغها لكسنبرغ ، فأشار بداية أنّه " لا توجد حقائق نهائيّة في قضايا تاريخيّة اللغات السامية وتطوّراتها "(8)
وبيّن أنّ العربيّة سابقة تاريخيّا للسريانيّة ، فالعربيّة والأراميّة متفرّعتان عن اللغة السامية الأمّ، أمّا السريانيّة فهي سليلة الأراميّة داحضًا بذلك مزاعم المستشرقين الذين ذهبوا إلى رأي مخالف معتبرين أنّ السريانيّة والكلدانيّة لهجتان للغة واحدة ، فالسريانيّة عندهم هي الأراميّة ذاتها ، ووظّف لكسنبرغ هذه المعادلة المغلوطة ليذهب إلى أنّ السريانيّة ظلّت لغة رسميّة في لجزيرة العربيّة إلى عهد الخليفة الأمويّ عبد الملك بن مروان ، عندما تمّ تعريب "مؤسسات الدولة" ، ليثبت بذلك أنّ القرآن خليط من اللغات.
وقد اعتمد لكسنبرغ "منهجًا" متدرّجًا لإثبات تضمّن القرآن للغة السريانيّة معجمِها ونحوِها منطلقًا من تفسير الطبري ، فلسان العرب ، فالبنية الصّرفية للفظة المدروسة ، ليقرّ بعد ذلك ـ إن أعوزته الحيلة وألجأته الحاجة ـ بانتساب الكلمة إلى اللغة السريانية.
وقد بنى لكسنبرغ مزاعمه باعتماد محاور ثلاثة :
ـ تنقيط القرآن منطلقًا من بعض الكلمات التي رآها "قلقة " في سياقها القرآني من قبيل لفظتي " تحت" و "سريّا" في الآية 24 من سورة مريم ، ليثبتها بعد مداورة على النحو الآتي : " فناداها من نحاتها ألاّ تحزني قد جعل ربّك نحاتك سريّا" مكسبًا لفظة "نحاتها " معنى التنزيل ، ومانحًا لفظة "سريّا" معنى "الحلال" .
ـ تعيين الألفاظ السريانيّة في القرآن: و من ذلك اعتباره "قسورة" تؤدّي معنى "الحمار الهرم" ، مع أنّ كلّ المؤشّرات اللغويّة تفيد بأنّها متأصّلة في اللغة العربيّة وزنا وصرفا ودلالة، وقد وردت في الشعر الجاهلي في أكثر من بيت .
ـ تصحيح الألفاظ السريانيّة في القرآن: ادّعى لكسنبرغ أنّ "فهم الأصول السريانيّة للفظة القرآن ، وللقرآن مجملاً هو السبيل على فهم اللغة القرآنيّة خاصّة بعد أن توصّل الفيلولوجيون الأوائل إلى أنّ قرأ وكتب ليست من أصول عربيّة "(9)
وقد حمل لكسنبرغ على القرآن وخاصّة ما جاء فيه من الآيات المبيّنة لإعجازه البيانيّ ، فإذا كان مبينًا كما تشير هذه الآيات فلمَ أشكلت آياته على المفسّرين وغمضت عليهم معانيه ، فظهرت مباحث "غريب القرآن" ، وانطلاقًا من ذلك اعتبر القرآن كتابًا منقولا من السريانيّة .
لم يكتب لقراءة لكسنبرغ الانتشار ، ولم يأبه بها أحد إلى أن وجدت فيها الصحافة الأمريكيّة مجالاً للانتقام من العالم الإسلامي بعد أحداث 11 سبتمبر ، فأشاعتها ونشرتها في مواقع كثيرة ، ولفتت انتباه العديد من الدّارسين ، وتواطأت الدوائر الإعلاميّة والأكاديميّة مع هذا الخلط العجيب ، لأنّها وجدت فيها موضعًا للدس على الإسلام والاستخفاف بالقرآن وبخس النبيّ محمد صلى الله عليه وسلّم مقامه ومكانته ، من ذلك مؤتمر نوتردام ( إحالة) الذي تبنّى أغلب طروحات لكسنبرغ باعتبار أنّ ما قدّمه يستند إلى ما جاء في كتب المفسّرين القدامى من إشارات إلى وجود كلمات معرّبة في القرآن ، وسعى مانفرد كروب الذي حاضر في هذا المؤتمر إلى إثبات الأثر المسيحي في القرآن الذي تسرّب إليه بحكم الروابط الجغرافية والتجارية بين الجزيرة العربية والحبشة المسيحيّة ، وخلص ماركوس قروس إلى عبثيّة الاعتماد على الوثائق العربية القديمة باعتبارها غير شفافة ومزوّرة للحقائق .
هذه الموجة من التأييد الأعمى للكسنبرغ لم تمنع ثلّة من الدّارسين الجادّين من نقده وتجريد مقاربته من أيّ بُـعد علميّ قادر على الصمود أمام الأنساق العلميّة الدقيقة ، ومن أبرز تلك الأعمال ما قدّمه فرانسوا دي بلوا الذي نقد عمل لكسنبرغ وبيّن أنّه استعادة لفرضيات الاستشراق الكلاسيكي ، ليخلص إلى كشف أمر مهمّ يتعلّق في استتار لكسنبرغ وراء هويّة مزيّفة ، فهو لبناني مسيحي قدّم نفسه بهويّة ألمانيّة ، وهي ظاهرة جديرة بالدّراسة خاصّة بعد تكرّرها في أوساط المستشرقين ، حيث عمد بعضهم إلى انتحال هويّة ، مثلما كان الأمر مع ابن الورّاق .
وقد عمد الدكتور المنصوري في نهاية الفصل إلى نقد مقاربات الاستشراق الجديد مؤكّدا على أنّها ضرب من الإحياء لمقولات الاستشراق الكلاسيكي وفرضياته في لبوس جديد مطيحًا بالمنطلقات اللسانية والانتروبولوجية التي وظفها لكسنبرغ نازعًا عنها غطاء التدليس ، مشيرًا إلى أنّها لا ترقى بأيّ حال إلى مستوى الأعمال الأكاديميّة ، خاتمًا الفصل بطرح قضيّة على غاية من الأهميّة ، وهي ضرورة عدم التصديق بأفول الاستشراق المهتمّ بالحضارة الإسلاميّة وفهم وسائله في تجديد الآليات وعناصر الفعل والتأثير من مداخل مختلفة خادعة ومظللّة .
1ـ2:القسم الثاني : من المركزية الغربية إلى النسبيّة الثقافية : المفاهيم
1ـ 2ـ 1: الفصل الأول:الهويّة والقيم الدينيّة في التجربتين التحديثيّتين اليابانيّة والعربيّة:دراسة مقارنة للإسلام والشنتو .
يشير الدكتور المنصوري بدءًا إلى أنّ تحديد مفهوم القيمة أمر من الصعوبة بمكان باعتبار تداخل المؤثّرات الفلسفيّة والتاريخيّة والثقافيّة في تشكيله وتنازعها في صياغته ، ومردّ الصعوبة عنده إلى عوامل أربعة:
ـ عدم ثبات المعايير المحدّدة للقيم باعتبار ما يطرأ عليها من تغيير بموجب الفعل التاريخي.
ـ تنازع المرجعيّات المسؤولة عن تحديد مفهوم القيم: الفرد أم المجتمع أم الأمّة.
ـ تشابك مفهوم القيم مع مفاهيم موازية وقريبة منه : الهويّة والثقافة والمجتمع .
ـ تبدّل القيم من بيئة ثقافيّة ـ اجتماعيّة إلى أخرى ، فهي ليست في كلّ الحالات قاسمًا مشتركًا بين الشعوب.
وتنسحب المعطيات نفسها على مفهوم الهويّة الذي يعسر تحديده خاصّة بعد سيادة مفهوم العولمة الذي يعني ـ فيما يعنيه ـ إلغاء الحواجز بين الهويّات والقيم وانصهارها في نموذج مهيمن واحد ألا وهو النموذج الغربي.
وأفضت هذه المداخل المفهوميّة بالدكتور المنصوري إلى طرح سؤال مركزيّ :هل الدين مرجع من مراجع تحديد القيم في المجتمع الحديث والمعاصر؟ وآثر أن يعالج هذه القضيّة انطلاقًا من بحث مقارنيّ بين الشنتو الياباني والإسلام.
يشير المنصوري إلى أنّ الإسلام دين كونيّ قائم على التوحيد جاء للنّاس كافّة أمّا الشنتو فهو دين قوميّ ياباني بدائي (10) مثل المرجع الأول للقيم الدينيّة والثقافات السياسيّة والاجتماعيّة التي حكمت الشعب الياباني ، وقد مثل الدّعامة المركزيّة في مشروع التحديث في أواسط القرن التاسع عشر التي تزامنت مع بعض التجارب الإصلاحيّة في الوطن العربي .
لقد تمكّن اليابانيّون من تحقيق مشروعهم التحديثي رغم العديد من المعوقات ومن أهمّها المعطى الجغرافي ، وخسارة الحرب العالميّة الثانية ، وعقد الدكتور المنصوري مقارنة طريفة بين التجربة اليابانيّة والتجربة المصريّة ، ذلك أنّ مصر كانت أكثر تقدّمًا من اليابان في أواسط القرن التاسع عشر ، " وقد سبقت إصلاحات محمد علي الإصلاحات اليابانيّة في عصر الإمبراطور مايجي بأكثر من ثلاثة عقود على الأقلّ كان اليابانيّون فيها يعانون من الجوع والفقر" (11)
إنّ نجاح التجربة اليابانيّة يعود ـ في نظر المنصوري ـ إلى حرص اليابانيين على تعميق أثر الدين في الحياة الفردية والمؤسسية ، وقد تزامنت بداية التحديث مع إحياء الشنتو ونشر تعاليمه ، يقول المنصوري في بيان ذلك " في حين حدّ الغرب من أثر الدين في الحياة الفرديّة والجماعيّة اقتصاديّة كانت أو سياسيّة أو فكريّة أو ثقافيّة لم يقصَ الدين عن حركة التحديث اليابانيّة كما تمّ في الغرب بل كان المشرّع لها والممهّد لتأصيلها إلى درجة صياغة نظريّة متكاملة في الغرض هي نظريّة سايساي إتشي saisai itchi
وتعني وحدة العقائد والحكومة ، أي أنّ أعضاء الحكومة هم أئمّة الشنتو والإمبراطور هو الإله والحاكم في ذات الآن "(12) .
ويلحظ المنصوري أنّ مشاريع التحديث العربيّة المحايثة زمنيّا للتجربة اليابانيّة اكتفت في الغالب الأعمّ بمحاكاة النموذج الغربي القائم على تجريد النصوص الدينيّة من قداستها (إحالة على العرب) وإقصاء مظاهر التديّن من حياتهم العامّة ، فلم يتمكّنوا من تحقيق الشروط الضروريّة الكفيلة بتحقيق تحديث جوهري وهو ما أفلح فيه اليبانيون عندما آمنوا بنموذجهم الوطني القائم على تعاليم الشنتو خاصّة بعد نجاح المفكّرين اليابانيين في تحويل الشنتو من دين بدائي إلى فلسفة دينيّة قائمة على نظريّة متكاملة في تنوّعها.
وفي المقابل لم يكن مشروع محمد علي الذي يعدّ أوّل مشروع تحديثي في العالم العربي وطنيًّا فعليًّا " بل كان الوجه الظاهري من مشروع استعماريّ خفيّ سعى إلى تفكيك الخلافة العثمانيّة "(13) ، إذ لم يكن لدى محمد علي أيّ تصوّر متكامل وناضج بشأن التحديث واكتفى باستيراد النموذج الغربي الرأسمالي الذي لا يتناسب مع المعطيات الثقافية والاجتماعية للبيئة المصريّة خاصّة والبيئة العربيّة عامّة ، أمّا التجربة الإصلاحية في تونس التي عرفتها في القرن التّاسع عشر فقد كانت عقيمة إذ اقتصرت على السلطة الحاكمة التي أفرطت في زيادة الضرائب ، وهو ما أفضى إلى تفكّك الدولة بين طرفين متنازعين: أقليّة مهيمنة تمارس كل أصناف الطغيان والاستبداد ، وأكثريّة محرومة تعاني البؤس والشّقاء ، وهو ما يفسّر كثرة الثورات .
ويخلص المنصوري إلى نتيجة مهمّة وهي أنّ أغلب المشاريع الإصلاحيّة العربية لم تستند إلى مفاهيم الهويّة الوطنيّة ، فلم تتمكّن من صياغة مشروع وطني يعي الخصوصيات الثقافية والاجتماعيّة والدينيّة ، إضافة إلى أنّ هذه المشاريع الإصلاحيّة لم تتمّ وفق مبدإ الاستمرار الاستراتيجي ، فكانت حالات معزولة سرعان ما تنتهي بمجرّد حدوث تغيير سياسي ، وقد آل الأمر بالخلافة العثمانية إلى الانهيار بدخول القوّات الاستعماريّة .
هكذا إذن حكم التغريب على كل تجارب التحديث التي عرفها العالم العربي بالفشل الذريع ، فصارت تجارب لتشويه الهويّة العربيّة القائمة بالأساس على المعطى الديني ، وأضحى الصّراع محتدمًا بين تيّارين يفتقدان آليّات الفعل المؤثّر : التيّار التغريبي الذي سعى إلى استيراد النموذج الغربي ، والتيّار الضديد له الذي اكتفى بالرّفض دون تقديم بديل ناجع ، فتحوّل الحديث عن التحديث إلى دائرة مفرغة ، وهو عكس ما حدث في التجربة اليابانيّة التي سعى روّادها إلى الفصل بين التحديث والتغريب ، فنظّروا لتحديث البلاد لا لتغريب المجتمع ، وتبنّوا شعارا فريدًا " الروح اليابانيّة والطريقة الغربيّة" .
لقد شكّل الدين جوهر التجربة التحديثيّة في اليابان لتفارق بذلك التجربة الغربيّة التي أقصت الدين ، أمّا في العالم العربي فإنّنا نعيش أزمة هيكليّة ، إذ تحوّل الدين عند من يوصفون بالتنويريين إلى معرقل للتحديث والتطوير ، لذلك وقع تهميش كلّ المقاربات ذات التوجّه الديني وإقصاء المفكّرين المنظّرين لها.
1ـ 2ـ 2: الفصل الثاني : مقولة الأسطورة في الدّراسات الدينيّة العربيّة واليابانيّة : تكاشي كيمورا مجادلاً لمحمد أركون .
إنّ مفهوم النسبيّة الثقافيّة لم يعد أمرا غُفلاً في الدراسات الغربيّة خاصّة وأنّه مثّل أداة ناجعة لتفكيك مقولات الحداثة وبيان مراكز الخلل المنهجي فيها ، وكرّس الدكتور المنصوري هذا المفهوم لإجراء مقارنة طريفة بين محمد أركون وتكاشي كيمورا في تعاملهما مع مقولة الأسطورة ، ولم يكن غرضه في ذلك إلاّ بيان الأنساق المنهجيّة التي توخّاها كلا المفكّرين ، وانطلق من ملاحظة على غاية من الأهميّة وهي أنّ كيمورا خصّ مقولة الأسطورة بدراسة مستفيضة مستقلّة فيما لم يُعْنَ بها أركون إلاّ عرضًا ، وفي ذلك بيان جليّ للفروق المنهجيّة التي حكمت عمل الرّجلين ,وهو ما سيكون له أثر بالغ في تحديد المصادرات .
أمّا الأسطورة عند أركون فهي مقولة محوريّة ذات نجاعة مثلى في التحليل ، لذلك أجراها في كلّ نماذج التراث الإسلامي فقهًا وعقيدةً ، ولم يتوان عن التصريح " القرآن خطاب أسطوري البنية" ، محاولاً الاستدلال على مشروعيّة قوله بالعودة إلى مداخل لغويّة تتيحها الفرنسيّة ، ويردّ القضيّة برمّتها إلى عجز العربيّة عن استيعاب المصطلحات ذات الصّلة ، وهي نظرة قاصرة عاجزة عن استكناه حقيقة الظواهر المدروسة ، فالمفارقة عجيبة مثيرة للاستغراب ، ذلك أنّ هذه المصطلحات والمفاهيم إنّما تعبّر عن خصوصيّة ثقافيّة وبيئة معرفيّة لها شروطها الذّاتيّة ، فما هو ناجع في الثقافة الغربيّة قد لا يكون كذلك في الثقافة العربيّة الإسلاميّة ، بمعنى أنّ الفكر هو في بعض وجوهه صدى للتجربة الاجتماعية الثقافية التي صاغته ، وبهذا المعنى الدقيق وعى كيمورا مقولة الأسطورة ، لذلك اعتبره غير ملائم لمقاربة الظواهر الانتروبولوجية اليابانية بمستوياتها المختلفة منطلقًا من اختلاف السياقات تباين المرجعيّات .
لقد بحث كيمورا في المصطلحMyth وقارنه بالمصطلح الياباني "شنوا Shinwa"، وتوصّل إلى أنّ مفهوم الأسطورة يعبّر عن ثقافة محليّة وريثة للتراث الإغريقي الروماني ، فلا يجوز بأيّ حال من الأحوال تعميمها على الثقافات الناشئة في بيئات مغايرة ، فبيّن بذلك قصور مثل هذه المفاهيم وهو ما عجز عنه أركون وغيره كثر من المفكّرين العرب الذين جعلوا وكدهم ترجمة الأفكار الغربيّة وإسقاطها من حيث يدرون أو لا يدرون على البيئة الثقافية العربيّة دون اهتمام بشروطها ، وهو السبب الفعلي لفشل كلّ محاولات التحديث ، لا عجز العربيّة عن استيعاب المفاهيم الغربيّة كما يزعمون .
3 : ملاحظات نقديّة
إنّ تميّز هذا البحث منهجًا وطرحًا ، لم يحلْ دون الوقوف على بعض الملاحظات النقديّة التي نجملها فيما يأتي .
أ ـ بدا الدكتور المنصوري مطمئنًّا للقول بأنّ عبارة "هيت لك " ذات أصل أمازيغيّ فرعوني مع أنّ هذا التخريج لا يصمد أمام تحدّيين:
ـ الأول : هذا القول مناف لجوهر الآية القرآنيّة " ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين".
فكيف تكون الآية عربيّة مبينة وبعض ألفاظها من غير ما عهده العرب .
ـ الثاني : هل تكفي شهادة بعض الأمازيغ المعاصرين للإقرار بمثل هذا التخريج ، والحال أنّ الأمر لا يجاوز حدود المشابهة اللفظيّة ؟
ـ قال الدكتور المنصوري " لم يسع سليمان القانوني إلى توحيد التشتّت الديني والمذهبي والسياسي الذي بدأت تشهده مناطق كثيرة من الخلافة" (ص 142) ، فهل كان أمر توحيدها ممكنًا حتّى يسعى إلى ذلك .
ـ يقول الدكتور المنصوري في ص161 : " وبدلا من العودة إلى القرآن والسنّة قياسًا على النموذج الياباني في عودته إلى كجكي ونيهونشوكي ..." وهي عبارة تقتضي المراجعة ، لأنّ العودة مطلب ضروري تمليها الحاجة الداخليّة الذاتيّة فتعليلها يكون من صميم الثقافة الإسلاميّة ، ولا مدعاة للقياس على أيّ نموذج خارجيّ .
4ـ الخــاتمـــة
قدّم الدكتور المبروك المنصوري في هذا الكتاب مقاربةً منهجيّة غاية في الدقّة ، فولج من خلالها إلى إحدى أهمّ القضايا التي ما فتئت تطرح بإلحاح في التجربة الثقافية العربية المعاصرة ، وهي : كيف نتعامل مع المقاربات النقديّة الغربيّة ؟ كيف نستدعي المنهج الكفيل بتحليل ظواهر ثقافتنا مع المحافظة على جوهر هويتنا؟
" الدراسات الدينية المعاصرة من المركزيّة الغربية إلى النسبية الثقافيّة " ـ في تقديري ـ تجربة في التحليل تجاوز حدّ كتاب لتشكّل مقاربة خلاّقة في الطرح والتناول ، جاءت لتصحّح مسارًا من الأخطاء المتراكمة التي حكمت على تجارب التفكير العربي بالفشل.
الهوامش والإحالات :
1 ـ هشام جعيّط : الوحي والقرآن والنبوّة ، دار الطليعة ، بيروت ، الطبعة الثالثة ، 1999، 7.
2ـ محمد أركون : تاريخية الفكر العربي الإسلامي ، تعريب هاشم صالح ، بيروت، مركز الإنماء القومي ،ط3،1998,8.
3ـ الدكتور المبروك المنصوري باحث مشارك بجامعة تسوكوبا باليابان ، وعضو بالأكاديميّة الأمريكية للأديان بأطلنطا ، يعدّ من أبرز الباحثين في الدراسات الدينيّة والحضاريّة والثقافية المقارنة ، يعمل حاليّا بجامعة الدمّام بالمملكة العربية السعودية ، صدرت له مجموعة من المؤلّفات منها :
ـ الإسلام في المغرب الكبير من الفتح إلى وفاة ابن رشد الحفيد: دراسة مقارنة في التّشكّل والانتشار والسّيادة والاستمرار، تونس، كليّة الآداب بسوسة والمطبعة الرّسميّة للجمهوريّة التّونسيّة، 2009.
ـ جدل الدين الإسلامي والعمران المغربيّ: الدار المتوسطية للنشر ،ط1، 2010.
4ـ الدراسات الدينيّة المعاصرة من المركزيّة الغربيّة إلى النسبيّة الثقافية : الاستشراق ، القرآن، الهويّة والقيم الدينية عند العرب والغرب واليابانيين ، الدار المتوسطية للنشر ، الطبعة الأولى ،2010.


الملكيّة الفكريّة للمقال لموقع الملتقى الفكري للإبداع

http://www.almultaka.net/ShowMaqal.php?id=785&cat=11