Thursday, February 2, 2012

كتاب "مكانة الدين في النهضة اليابانية والعربية: دراسة مقارنة"، تونس، الدار المتوسطية للنشر، 2012





[من مقدمة الكتاب]


تقديم: في احتضار التيّار التّغريبي وأفول العلمنة القسريّة
عندما زرت جامعة تسوكوبا بطوكيو لأوّل مرّة سنة 2008 باحثا في إشكاليّة "الهويّة والقيم الدّينيّة في المجتمعات المعاصرة" لم أكن أتصوّر أنّي سأتوصّل إلى النّتائج الّتي توصّلت إليها ونشرتها في كتابي "الدّراسات الدّينيّة المعاصرة من المركزيّة الغربيّة إلى النّسبيّة الثّقافيّة عند العرب والغرب واليابانيّين"[1]. وكثير من تلك النّتائج الّتي نشرتها في ذلك الكتاب قبل سنتين من اليوم صارت تتجسّد على أرض الواقع في التوجّه نحو تعميق صلة الشّعوب العربيّة الإسلاميّة بهويّتها الدّينيّة والثّقافيّة. وإن كان العرب قد انتظروا أكثر من نصف قرن من استقلالهم ليبتدئوا في تحسّس هذا الطّريق الحضاريّ العام فإنّه بالنّسبة إلى اليابانيّين لم يفارقهم للحظة واحدة منذ الأيّام الّتي بدأت فيها نهضتهم الحضاريّة العامّة تتشكّل في أواسط القرن السّابع عشر لتثمر في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر في إصلاحات الإمبراطور مايجي.
ورغم أنّي احترز كثيرا من مصطلح "الاستقلال" واستعمل بدله مصطلح فترة "ما بعد الاستعمار Post Colonial Period " فإنّ ذلك لا يعني أنّ هذه الفترة خالية خلوّا كليّا من أيّة توجّهات استقلاليّة وطنيّة، ولكنّ الأمر موصول، في نظري، بالتّوجّه الحضاريّ العام الّذي حافظت فيه النّخب العربيّة-التّغريبيّة على نفس المسار الحضاريّ الاستعماري فكريّا وفلسفيّا وحتى لغويّا، بل إنّي أكاد أذهب إلى أنّ أغلب الاستقلالات العربيّة كانت صوريّة شكليّة ولم تؤدّ إلى بناء دولة وطنيّة حقيقيّة. وحلّ الاستعمار الثّقافيّ غير المباشر بدل الاستعمار الماديّ المباشر.
ربّما يعود ذلك إلى أنّ هذا النّوع من الاستعمار أو "التّثقيف التّغريبي" قد وجد من الباحثين العرب المعاصرين من يروّج لأطروحاته، بعد أن تبنّى كثير منهم مفاهيم ونظريات وآليّات ومقولات تفسيريّة وتحليليّة غربيّة سواء عن وعي بمسلّماتها ومصادراتها ومشروعها الإيديولوجيّ أو عن غير وعي بها، وبقطع النّظر عن الخلفيّات الإيديولوجيّة التي تحكمها والمصادرات التي تنبني عليها منهجيّا ومعرفيّا.
وربّما يعود ذلك أيضا إلى أنّ الثّقافة العربيّة المعاصرة، من بين ثقافات كلّ الشّعوب المستعمرة، حسب اطّلاعي، هي الثّقافة الوحيدة التي لم ينشأ فيها نقد ما بعد استعماري Post-Colonial Criticism. وهو نقد منهجيّ يسعى إلى تفكيك البنى الثقافيّة التي حاول الاستعمار إرساخها بعد أن نظّر لها الاستشراق. الثقافة العربيّة الحديثة هي الثقافة الوحيدة التي انخرط مثقّفوها في الحقبة ما بعد الاستعماريّة لا في نقد الاستعمار وتفكيك بناه ورسم آفاق حداثة وطنيّة متكاملة، بل انخرطوا في تمجيد الحداثة الغربيّة وعملوا على إرساخ مشاريعها الفكريّة والثقافية والاقتصاديّة والسّياسيّة والاجتماعيّة عن وعي أو عن غير وعي متوهّمين أنّها 'النموذج الكونيّ المعاصر للعقلانيّة'.
وقد برهنت الحركة الطّبيعيّة للتّاريخ طوال نصف القرن الّذي مرّ منذ موجة الاستقلالات العربيّة إلى اليوم أنّ أيّ تيّار فكريّ أو ثقافيّ أو اجتماعيّ أو سياسيّ لا ينطلق من روح المجتمع ومن أسسه الحضاريّة العامّة في بعديها الدّينيّ الإسلامي والثّقافي العربي سيظلّ تيارا واهما ومموّها مهما أطلق على نفسه من مصطلحات مثل "الحداثي" و"العلماني" و"التّقدّمي" و"الدّيموقراطي" زاعما بذلك أنّه الممثّل الأوحد لهذه المصطلحات من جهة، والأجدر بتمثيلها من جهة ثانية. وغابت عن هذا التيّار حقائق تاريخيّة مهمّة ومنها أنّ ادّعاء "الكونيّة" للحداثة الغربيّة وللمفاهيم والأفكار المتفرّعة عنها ليس سوى وهم لأنّ الحداثة الغربيّة وما سبقها من مفاهيم ومراحل فكريّة وحضاريّة منذ أيّام النّهضة الأولى في بدايات القرن السّابع عشر، كلّها ليست سوى مسار حضاريّ غربي صيغ لحاجات حضاريّة غربيّة محدّدة وأنّ كونيّته ليست سوى ادّعاء أكّدته دراسات كثيرة حتّى من داخل الحضارة الغربيّة في حدّ ذاتها. واستعاضت المقولات ما بعد الحداثويّة عن مصطلح "كونيّة المفاهيم الغربيّة" بمصطلح "النّسبيّة الثّقافيّة".
ومن الحقائق التّاريخيّة المهمّة أيضا أنّ محاولات فصل الشّعوب العربيّة عن انتماءاتها الدّينيّة الإسلاميّة لم تفلح ولن تفلح. وقد صار من الواجب تجاوز المفهوم الغربيّ للتّحديث وما قام عليه من علمنة Scularization وفردانيّة Individualism وماديّة Materialism رأسماليّة Capitalism فجّة والاستعاضة عنه بمشاريع نهضويّة وطنيّة فعليّة تستند إلى روح الحضارة العربيّة الإسلاميّة وتستلهم من التّجارب النّاجحة عند الأمم المتقدّمة الّتي عرفت مسارا مماثلا كان فيه للدّين شأن كبير وكان فيه للثّقافة الوطنيّة والنّظم والمؤسّسات الاجتماعيّة المحليّة قيمة فاعلة. ومن بين هذه التّجارب النّاجحة هي التّجربة النّهضويّة اليابانيّة بكلّ حقائقها ومكوّناتها الّتي قد تصدم عددا كبيرا من "الحداثويّين" العرب الّذين ينفون أيّ إمكان لأيّة نهضة عربيّة حقيقيّة خارج النّموذج الغربي بنظامه اللائيكي والرّأسمالي والفرداني والماديّ.
وسيكون مدار البحث في هذا الكتاب استجلاء مكانة الدّين في النّهضة اليابانيّة مقارنة بمكانته في الفكر العربي الحديث والمعاصر كلّما سمح السّياق بذلك. وسأركّز على ثلاث قضايا أساسيّة: اثنتين منها متّصلتين بالدّين اتّصالا مباشرا والثّالثة ستبحث في أثر الفكر الفلسفي والدّيني الشّرقيّ في مجمله في الفكر الحداثي وما بعد الحداثي الغربي.
سأدرس في الفصل الأول قضيّة مهمّة هي قضيّة مكانة الدّين في النّهضة اليابانيّة مقارنة بمكانته في النّهضة العربيّة. وسأصل ذلك باختلاف مساريْ النّهضة اليابانيّة والنّهضة الغربيّة الّتي ارتبطت بها المحاولات النّهضويّة العربيّة ارتباطا محاكاتيّا. ثمّ سأبحث في إشكاليّات العلمنة واللّائيكيّة والتّمدّن والتّصنيع وصلتها بالحداثة والتّقدّم والعقلانيّة والاختلافات في جملة هذه المفاهيم بين هاتين التّجربتين، مشيرا إلى الفوضى المنهجيّة والمفهوميّة الّتي تتخبّط فيها الثّقافة العربيّة المعاصرة بسبب ارتباطها بالنّسخة الغربيّة للحداثة، وانفصالها عن جذورها الحضاريّة والنّفسيّة المؤسّسة لوجودها. وغاية كامل الفصل أن يدعو إلى التّفكير لا أن يقدّم إجابات.
وستتبيّن لنا من خلال هذا الفصل أنّ الدّين كان المرتكز الأوّل للنّهضة اليابانيّة منذ بداية تشكّلها في أواخر القرن الخامس عشر في مسار معاكس تماما لمسار النّهضة الغربيّة، وهو مسار قد أقصى الدّين ونشر العلمنة والإلحاد ليقوّض تغطرس سلطة الكنيسة المسيحيّة في القرون الوسطى. وقد اشتُقّت من الدّين الياباني: الشّنتو كلّ المفاهيم الفكريّة والثّقافيّة والحضاريّة السّياسيّة والاقتصاديّة والتّربويّة الوطنيّة وظلّت هذه المفاهيم حيّة فاعلة إلى اليوم. والمدرك لأسس هذا المشروع النّهضويّ اليابانيّ في استناده إلى بنى دينيّة مفصّلة يتبيّن له تهافت رأي كلّ من يريد إقصاء الدّين عن أيّ مشروع فكريّ أو حضاريّ أو ثقافيّ أو سياسيّ أو اقتصاديّ متّبعا في ذلك النّموذج الغربيّ في التّحديث ومتغاضيا عن غيره من النّماذج جهلا أو معاندة.
وسأدرس في الفصل الثّاني قضيّة توظيف المقولات التّحليليّة الغربيّة في دراسة أديان الشّعوب غير الغربيّة وثقافاتها. وقد اخترت مقولة واحدة هي مقولة الأسطورة Myth لدراسة كيفيّة توظيفها في مقاربة النّصّ القرآني في الثّقافة العربيّة، مقارنة برفض أساتذة الأديان اليابانيّين توظيف هذه المقولة ذاتها لدراسة النّصّين المقدّسين في ديانة الشّنتو: كُجِكي ونيهونشوكي. وسأحاول أن أعقد جدلا مقارنيّا بين الباحث في الإسلاميّات محمّد أركون وأستاذ الأديان الياباني تكاشي كيمورا. وقد وظّف محمّد أركون هذه المقولة في مقاربة النّصّ القرآني والفكر الإسلامي عامّة، في حين أقرّ تكاشي كيمورا بجدوى اعتماد مقولة الأسطورة في تحليل النّصوص الدّينيّة ذات الجذور الإغريقيّة-الرّومانيّة في الفكر الغربي، ولكنّه عارض توظيفها في مقاربة النّصّ الشّنتوي الياباني المقدّس كُجِكي وفي مقاربة مختلف الأساطير الآسيويّة اعتمادا على نظريّة النّسبيّة الثّقافيّة، واستنادا إلى اختلاف الأطر الثّقافيّة والحضاريّة والأخلاقيّة للحضارة اليابانيّة عن نظيرتها الغربيّة. وغاية كامل الفصل أن يدعو إلى التّفكير والاستنتاج لا أن يقدّم استنتاجات ذاتيّة.
وسيتبيّن لنا أنّ أساتذة الأديان اليابانيّون اليوم لا يعتبرون المصطلحات والمفاهيم التّحليليّة الغربيّة مفاهيم كونيّة يجوز استعمالها لدراسة كافّة أديان البشريّة وتحليلها، بل يعتبرون هذه المفاهيم رؤى حضاريّة غربيّة مخصوصة صيغت لحاجات غربيّة محدّدة ولا تنطبق لآليّا وحتميّا على بقيّة الحضارات والأديان والثّقافات. وفي هذا أدقّ ردّ على من يعتبر أن الحضارة الغربيّة في مفاهيمها وأفكارها ومصطلحاتها هي قمّة التقدّم والحداثة والرّقيّ، ولا سبيل لنا إلا الأخذ بها لنتقدّم.
وسأبحث في الفصل الثّالث قضيّةً عَمِلَ الفكر الغربيّ الحديث والمعاصر جاهدا على طمس معالمها بشتّى الطّرق والوسائل، تماما كما عمل على طمس أثر الفكر العربي الإسلامي في النّهضة الغربيّة، وعمل على إنكار إسناد أيّ تأثير له في الفكر الغربي بأيّ شكل من الأشكال. وهذه القضيّة هي أثر الفكر الدّيني والفلسفي الشّرقي في الفكر الحداثوي وما بعد الحداثوي الغربي.
لقد ظلّ هذا التّأثير لغزا محيّرا لكثير من المفكّرين والباحثين في تاريخ الأفكار وتطوّرها في الفكر الغربي. فقد تبيّن لكثير منهم أنّ في تاريخ تطوّر هذا الفكر حلقة مفقودة أثّرت تأثيرا كبيرا في هذا الفكر ولكنّها ظلّت مجهولة بشكل مفصّل، وإن كانت بعض الدّراسات قد أشارت إلى شذرات منها في أبحاث مجزّأة تفتقد إلى النّسقيّة والتّرابط، فتحدّ من هذا التّأثير ومن فاعليّته بشكل كبير. وسيتبيّن لنا أنّ الدّراسات المتقدّمة في تاريخ الأفكار قد بيّنت أنّ الفكر الشّرقيّ الفلسفيّ والدّيني في الصّين والهند واليابان كان المنهل الأساسيّ لكثير من المقولات والمفاهيم الفلسفيّة الغربيّة الحداثويّة وما بعد الحداثويّة حتى عند أكبر الفلاسفة الغربيين كنيتشه وفتفنشتاين ومارتن هايديقر مثلا.
ورغم أنّ الحضارة الغربيّة قد ظلّت تخفي هذا الأثر، كما سبق وأن أخفت أثر الحضارة العربيّة الإسلاميّة في النّهضة الغربيّة الأولى، فإنّه قد صار متأكّدا اليوم. وعلى الباحث الحصيف أن يدرك أن الحداثة الغربيّة في حدّ ذاتها هي جماع رؤى دينيّة وفلسفيّة شرقيّة وشرق-أوسطيّة كثيرة قامت على التّمازج والتّفاعل، وأنّها قد استقت كثيرا من مفاهيمها الّتي صنعت منعرجات حاسمة في الفكر البشري المعاصر من البوذيّة والكنفشيوسيّة والطّاويّة والزّينيّة وغيرها...
فما مكانة الدّين في التّجربة النّهضويّة اليابانيّة مقارنة بمكانته في التّجارب العربيّة؟
وكيف ينظر الباحثون اليابانيّون إلى توظيف المصطلحات والمفاهيم والمناهج الغربيّة في تحليل فكرهم الدّيني، مقارنة بذات التّوجه عند زملائهم العرب؟
وكيف أثّر الفكر الدّيني والفلسفي الشّرقي في الفكر الغربي الحداثوي وما بعد الحداثوي؟


[1] المبروك المنصوري، الدّراسات الدّينيّة المعاصرة من المركزيّة الغربيّة إلى النّسبيّة الثّقافيّة، تونس، الدّار المتوسّطيّة للنّشر، 2010.