Saturday, November 12, 2011

كتاب: تشكّل الإسلام وتطوّره وانتشاره في بلاد المغرب: دراسة مقارنة: مقتطف من المقدمة




مقدمة الكتاب: في الدّراسات الإسلاميّة المقارنيّة


الدّراسات الإسلاميّة المقارنيّة Comparative Islamic Studies مشغل جديد انتشر في كثير من الجامعات الإسلاميّة المتقدّمة حول العالم، ولكنّه لا يزال محدودا في الجامعات العربيّة، رغم أنّه مبحث يساهم مساهمة فعّالة في إنارة جوانب كثيرة من الإسلام لم تُفلح الدّراسات التّحليليّة الكلاسيكيّة في إنارتها.
وتُعتبر الدّراسات المقارنة عاضدا لمشروع تطوير العلوم الإسلاميّة في الثّقافة العربيّة المعاصرة، فهي تحلّل البنى المكوّنة للظّاهرة الدّينيّة الإسلاميّة عند عدد من الفرق والمذاهب الإسلاميّة من الدّاخل بدل النّظر إليها والحكم عليها من الخارج، وتبحث في الجوامع المشتركة للمقالات المكوّنة للفكر الإسلامي، فتُنشئ جسور تواصل وتكامل بين كلّ المذاهب والطّوائف الإسلاميّة، وتنفي الخلاف لا الاختلاف، بعد أن عصفت بالأمّةِ الطّائفيّةُ المقيتةُ والمذهبيّة المبغضة والتّكفيريّة الصّادّة عن سبيل الله فمزّقتها كلّ ممزّق.
وتعني المقارنيّة استواء النّظر التّحليليّ إلى كلّ الفرق والمذاهب والأفكار والأعراق والأجناس الّتي شاركت في صوغ الفكر الإسلامي. وتعني أيضا التّعامل العلمي المحايد مع المادّة المدروسة لأنّها مادّة خلافيّة، فلا ينخرط الباحث بوعي أو دون وعي في صراعات الماضي، ولا يصدر أحكاما لا تدخل ضمن مجال البحث العلميّ الرّصين، ولا ينحاز إلى فرقة أو أخرى فيبدّع أو يكفّر غيرها من الفرق لمجرّد أن خالفته في تأصيل الأصول أو تفريع الفروع.
وبما أنّنا نقارن فكرا دينيّا يتواشج مع كلّ الأفكار المحرّكة للمجتمع، وللظّاهرة الدّينيّة خصوصيّات وشروط انتظام وآليّات تحليل، فإنّ نظرنا إلى الظّواهر سيختلف باختلاف المكوّنات المباشرة لتك الظّواهر. ولمّا كان الإسلام دينا وثقافة وحضارة وتاريخا وهويّة فإنّ الشّفرات التّحليليّة للإسلام ستختلف باختلاف المفهوم المراد من المصطلح.
وفي هذا وذاك، وفي كلّ مراحل البحث، اقتضت خصوصيّة المادّة المدروسة، الإسلام، الإيمان المنهجي: أي أن ننظر إلى المفاهيم والأفكار الإسلاميّة في بلاد المغرب إلى نهاية القرن الهجري السّادس نظر المؤمنين بها إليها في تلك الفترة لندرك كنهها......


مقدّمة البحث

يكتسب الدّين صفة الشّمولية بما أنّه ما من مجتمع على الأرض لم يعرف تجربة دينيّة وضعيّة أو توحيديّة[1]. ويكاد العقديّ في أغلب التّجارب الدّينيّة يُجْمِل أوجه نظرة الإنسان إلى الكون والوجود والمصير[2]. وتُعتبر الدّراسة المقارنيّة للفكر الدّيني من أكثر الدّراسات تعقيدا في العلوم الإنسانيّة الحديثة والمعاصرة نظرا إلى تداخل العوامل المحدّدة للظّاهرة الدّينيّة وتشابكها[3].
وتمثّل المقالات العقديّة والاِختيارات الفقهيّة في الفكر الإسلاميّ منظومة متكاملة تستجيب لمواضعات العمران البشريّ الّذي ينشئه المتديّن اِنطلاقا من ثقافته ومن اِنتمائه ومن الجهاز المفهوميّ الّذي يقارب به هذه القضايا. وإذ النّصّ القرآنيّ لا يُفهم إلاّ بالمرجع الثّقافي الّذي نزل بلسانه وما اِنفكّ يحاوره وبالبيئة الّتي اِنتشر فيها وما اِنفكّ يسايرها. ولا شكّ في أنّ للمرجع الأوّل شأناً في نظام النّصّ القرآنيّ وجانب التّشريع فيه وللمرجع الثّاني شأناً في تفهّم ذاك النّظام وفي تأويل التّشريع وفق أسئلة العمران. ومن هنا تتحتّم دراسة الظّاهرة الدّينيّة في كلّيّتها، من حيث الجدل المحرّك لها، لفهم أسرار التّشكّل والاِنتشار والسّيادة والاِستمرار والبحث فيها عن مواطن الخصوصيّة ونقاط التفرّد. وهو ما يقتضي دراسة الجدل بين الفرق والمذاهب الإسلاميّة المؤسّسة للتّجربة الدّينيّة في بيئة ما[4]، باِعتبار الجدل محركا للتّاريخ منتجا للأفكار مهما كانت صفتها، فهو يحكمنا في كلّ مظاهر حياتنا وتصوّراتنا وفي كيفيّات التّفكير وطرق الإنتاج[5].
وبما أن فهم الفكر وليد بيئته زمانا ومكانا[6]، إذ هو يتلون بألوانها ويتكيف معها ويصطبغ بمشاغل الإنسان فيها فلا بدّ أن يرتبط التّحليل الفكريّ بفضاء جغرافيّ يؤطّره تجنّبا للتّعميمات المخالفة للبحث العلميّ الرّصين. ولمّا كانت الدّراسات الإسلاميّة المقارنيّة في بلاد المغرب شحيحة ومشتّتة وغير معمّقة فقد صرنا إلى اختيار بلاد المغرب فضاء جغرافيّا لهذه الدّراسة الإسلاميّة المقارنيّة. وهو اِختيار راجع عندنا إلى سببين اِثنين:
- يتمثّل الأوّل في الوعي العميق بأنّ التّجارب الفكريّة والثّقافيّة قائمة على التنوّع والاِختلاف. فللإسلام تجارب فكريّة ثقافيّة متنوّعة بتنوّع المجال الجغرافيّ الّذي اِنتشرت فيه هذه الرّسالة. والفكر الإسلامي العربي غير الفكر الإسلامي الفارسيّ والتّركي والأندونيسي دون القول بالقطائع الكلّيّة لأنّ هذه النّماذج الفكريّة قائمة على التواصل بما أنّ مفاهيم الرّسالة تنتظمها وتؤطّرها[7]. ولكنّ المختلف بينها هو طرق الفهم والتّأويل وكيفيّات الإنتاج وآليّاته[8]. ولهذا فالإنسان عندما يفكّر وينتج في أيّ مجال فإنّ تفكيره وإنتاجه رهن ظرفيّته وثقافته وموقعه. وهذا لا ينطبق على الفكر الإسلامي فقط بل على كلّ التّجارب الدّينيّة توحيديّة كانت أو وضعيّة. فالفكر المسيحي المشرقي ليس ذاته الفكر المسيحي الرّومانيّ وهذا مختلف حتمًا عن الفكر المسيحي الإفريقي والقبطيّ وكذا الأمر بالنّسبة إلى الفكر اليهودي.
واِختيار البيئة المغربيّة راجع إلى الرّغبة في تفهّم أنماط حضور الدّينيّ وتشكّل تجربة دينيّة إسلاميّة في بيئة مختلفة كلّيّا أو جزئيّا عن التّراث المشرقي الّذي نشأت فيه التّجربة الأولى ونهلت منه. وهي تتّصل بمجموعة إثنيّة مختلفة أيضا كلّيا أو جزئيا عن المجموعة التي نزل الوحي بلسانها وتمّت أسلمة بعض من شعائرها وعاداتها في حين قُبل بعضها الآخر كما هو مع تغيير الدّلالات أو تحوير كيفيّة الأداء وهذا ما خلق ألفة بين المتعبّد والعبادة. وستؤكّد هذه الرّؤية غنى الفكر الإسلامي في تلبّسه بالظّاهرة الاِجتماعيّة واِضطلاعه بمجمل آمال النّاس وقدرته على التّلوّن بمشاغلهم والتّكيّف مع آرائهم، وتبيّن كيف يصوغ الإنسان رؤاه وفق تجاربه، ويصوغ تجاربه وفق بيئته وتكون بيئته نقطة في جدل التّاريخ المتواصل ولحظة من لحظات التّاريخ الإنساني العام.
- أمّا ثاني الأسباب فيتّصل بنظرتنا إلى الصّلة بين التّأريخ للحدث والتّأريخ للفكر اِعتبارا لتولّد الثّاني عن الأوّل وكونه نتيجة حتميّة مباشرة له، رغم صفته غير الواضحة أحيانا، وكلاهما وليد الحاجة[9]. وعملنا يتمثّل في تبيين درجات الوضوح والعتمة في هذه العلاقة أوّلا وإدراك قوانين مفسّرة لها ثانيا. وذلك يتطلّب تفكيك نظام الأحداث التّاريخيّة وفهم المنطق الذي صيغت وفقه، ومن ثمّ وصل الظّاهرة الدّينيّة بالحدث التّاريخيّ والمحيط الجغرافي والثّقافي والذّهنية السّائدة وقتها. أي لا بد من تفكيك هذه التّجربة في إطار الملابسات العمرانيّة في البيئة التي تعمل على تشكيل هذه الظّاهرة وتعميقها.
وهذا ما دفعنا إلى ضبط زمنيّ لمجال الدّراسة بعد الضّبط الجغرافيّ. فصرنا إلى أنّ نهاية القرن الهجريّ السّادس تمثّل منعرجا حاسما في تاريخ بلاد المغرب لا دينيّا فقط بل سياسيّا أيضا. وإن كان التّواشج متواصلا بين هذه الفترة والفترة التي ستتلوها لأنّنا لا نقول بالقطائع في الفكر وتاريخه ولا في التّجارب وإنما في الملامح والخصائص. فخصائص هذه وتلك وملامحهما غير متجانسة قطعا. والذّروة التي بلغها المغرب الإسلاميّ في القرن الهجريّ السّادس في عهد الموحّدين لم يتجاوزها لا فكريا ولا سياسيّا إلى اليوم. ويعتبر اِبن رشد الحفيد (595/ 1198) تتويجا فريدا لها. وقد شهدت هذه الفترة الأولى حرّكية دينيّة وسياسيّة واِجتماعيّة وتحولات هامّة أثّرت في التّركيبة البشريّة لسكّان شمال إفريقيا. فصادرنا على أنّ هذه الفترة تمثّل دورا حضاريّا واحدا يتكوّن من ثلاثة أوضاع ثقافيّة. يمتدّ الأوّل إلى نهاية القرن الهجريّ الثّاني، وهو وضع الاِنتشار، والثّاني يمتدّ إلى أواسط القرن الهجريّ الخامس وهو وضع السّيادة، وينتهي بوفاة اِبن حزم (456/ 1064 ) والثّالث يمتدّ إلى نهاية القرن الهجريّ السّادس وهو وضع الاِستمرار. وينتهي بوفاة اِبن رشد الحفيد (595/ 1198). وتمّ اِختيار هذا التّحديد بعد اِستقراء عدد من الأبحاث المعاصرة الّتي اِعتنت بالفكر الإسلاميّ في بلاد المغرب في هذه الفترة وبعد القراءة الشّخصيّة للمدوّنة المغربيّة[10].
وتكوّن هذه الأوضاع الثّقافية الثّلاثة دورا حضاريّا واحدا تتوجّب دراسته دراسة مقارنيّة في كلّيته لا بالنّظر إلى مقالة واحدة أو فرقة واحدة فقط وإنّما باِعتبار كلّ الأفكار الّتي عرفتها بلاد المغرب عند كلّ الجماعات المكوّنة للتّركيبة السّكّانيّة لهذه المنطقة. أمّا الدّور الحضاريّ الثّاني فهو يتكوّن من أوضاع ثقافيّة مختلفة سيتمّ تحديدها وتحديده في دراسة لاحقة ضمن مشروع متكامل يعنى بملامح التّجربة الدّينيّة في شمال إفريقيا.
وهذان المفهومان اللّذان سنقارب بهما هذه القضيّة يمثّلان مفهومين أساسيّن لتبيّن الخصائص الواِسمة للفكر في مرحلة تاريخيّة محدّدة. ويعني مفهوم الوضع الثّقافي جملة البنى والأفكار والهياكل والمؤسّسات المكوّنة للفكر في فترة تاريخيّة محدّدة ومضبوطة. أمّا مفهوم الدّور الحضاريّ فيعني الحقبة التّاريخيّة الّتي يمرّ بها الفكر ويكون فيها موسوما بسمات معيّنة قد يتواصل بعضها في حقبة أخرى لاحقة، وقد تعرف هذه الحقبة اللّاحقة تغيّرا هيكليّا جذريّا. ومن هنا فالدّور الحضاريّ أشمل من الوضع الثّقافي لأنّ كلّ دور لابدّ أن يشمل أوضاعا ثقافيّة مختلفة قد تتكامل وقد تتصارع، وفي تكاملها وتصارعها تخلق ما اِصطلحنا على تسميته بالدّور الحضاريّ. والدّور عندنا أقرب إلى المفهوم Concept المجرّد منه إلى المحدّد الزّمني[11].........................................
.................
...........


[1] R. Girard, La violence et le sacré, 135
[2] حرصا منّا على دقّة النّقل الأكاديميّ في ما يتّصل بالأفكار الّتي استفدنا منها من كتب غير عربيّة، فإنّنا نورد الشّاهد بلغته الأصليّة ثمّ ننقل معناه إلى اللّغة العربيّة. وتعني هذه العلامة [م] ضبطا للمعنى لا تعريبا للشّاهد.
Ascétisme, mysticisme, rapport au monde, salut, virtuosité, charisme (de la personne ou de la fonction), prophétie (exemplaire ou de mission), quotidianisation, formalisme magique, désenchantement, église, secte, orthodoxie, hérésie, doctrine, sacrement, piété, éthique, ethos, cure des âmes, conduite de vie, habitus, etc.… Presque tous venus de la théologie. M. Weber, Sociologie des religions, 13.
[م: إنّ الزّهد والتّصوّف والعلاقة بالعالم والسّلام والمهارة والبركة (ما تعلّق منها بالشّخص أو بالحدث) والنّبوّة (النّبويّة أو الرّسوليّة) والنّزعة اليوميّة والشّكلانيّة السّحريّة ونزع السّمة السّحريّة والكنيسة والفرقة والبدعة والعقيدة والشّعيرة والتّقوى والأخلاق وتنقية الأرواح ونمط العيش... كلّها أمور منبثقة في الأغلب من العقيدة].
[3] M. Augé, Symbole, Fonction, Histoire : les interrogations de l’anthropologie, 52. Encyclopædia Universalis, CD- DVD, 6. 0. 72, Religion, (Sabbatucci Dario).
[4] الجدل في تعريف الباجي هو تردّد الكلام بين اِثنين قصد كلّ واحد منهما تصحيح قوله وإبطال قول صاحبه. الباجي، المنهاج في ترتيب الحجاج، 11.
[5] Los eruditos religiosos tuvieron una enorme influencia en los ámbitos espiritual y temporal de la sociedad musulmana, y en el modo de pensar y de vida de las gentes, contribuyendo a la existencia de una religiosidad universal y convirtiéndose en árbitros de múltiples aspectos de la conducta humana. A. G. Chejne, Historia de España Musulmana, 259.
[م: لعلماء الدّين تأثير عميق في تكييف المحيط الرّوحيّ والدّنيوي للمجتمع الإسلاميّ، وفي كيفيّة تفكير البشر ونمط عيشهم. وهم يساهمون بذلك في خلق تديّن كونيّ يحدّد كلّ مظاهر السّلوك البشري].
[6] لا بدّ أن يميّز القارئ هنا بين مصطلحين مركزيّين: الدّين، والفكر. الدّين ربّاني والفكر بشريّ. وبحثنا يرتكز على الثّاني لا على الأوّل. وهذا التّمييز ضروريّ لأنّ المستشرقين وكثيرا من الدّارسين العرب يخلطون بين المصطلحين خلطا متعمّدا. والغايات الاستشراقيّة في توجّههم هذا التّوجّه واضحة ولا تحتاج إلى التّنبيه عليها.
[7] El Islam magrebí no es, en su aspecto práctico, igual al egipcio, al sirio, al turco y no digamos al pakistaní, al filipino o al indonesio aun cuando los principios sagrados sean los mismos, igual el culto directo a Dios y único el Libro del que emana la religión: el Corán. F. V. Martínez, El Islam en el Mundo Bereber, 6. F. V. Martínez, Mitos y leyendas en el mundo Bereber, 12.
[م: لا يطابق الإسلام المغربيّ في مظهره العمليّ الإسلام المصريّ أو السّوريّ أو التّركيّ، دون أن نتحدّث عن الإسلام الباكستانيّ أو الفيلبّينيّ أو الأندونيسيّ، حتى ولو كان المعتقد واحدا والشّعائر واحدة والكتاب الّذي منه ينبثق الدّين واحدا]. ولكن لا بدّ أن نؤكّد هنا أنّ مصطلح "الإسلام القُطْري": مثل "الإسلام التّونسي" أو "الإسلام التّركي"... ليس سوى مصطلح استشراقي هدفه تجزيء الدّين الإسلامي وإظهاره وكأنّه أديان متعدّدة. والأصوب علميّا وعقديّا اعتبار التّنوّع في الفكر لا في الدّين. الدّين واحد أمّا الفكر فيختلف باختلاف الثّقافات واللّغات والعصور. وعلى القارئ أن يستوعب الفرق بين المصطلحين. وسنخصّص لهذا الثّبت الاصطلاحيّ بحثا مستقلّا.
[8] نؤكّد هنا المفهوم المعاصر لعمليّة الفهم كما تشكّل في المباحث الفلسفيّة المعاصرة وخاصّة في الهيرمونيطيقا مع شلايرماخر وﭙول ريكور وﭭدامر باِعتبار أنّ التّأويل فلسفيّا ليس فعلا منضافا إلى الفهم بل هو قوامه الأساسيّ. وهذا ما بيّنه ريكور في كتابه De l’interprétation ; essai sur Freud,. وجلّاه ﭭدامر في قوله: Auslegung ist nicht ein zum Verstehen nachträglich und gelegentlich hinzukommender Akt, sondern Verstehen ist immer Auslegung, und Auslegung ist daher die explizite Form des Verstehens. Mit dieser Einsicht hängt zusammen, daß die auslegende Sprache und Begrifflichkeit ebenfalls als ein inneres Strukturmoment des Verstehens erkannt wird. H. G. Gadamer, Wahrheit und Methode, 291.
[م. ليس التّأويل فعلا يمكن أن يضاف ظرفيّا إلى الفهم. "فَهِمَ" هي دائما "أَوَّلَ". ويكون التّأويل، نتيجة لذلك، هو الشّكل الظّاهر للفهم. وهذا المعنى يؤسّس للفكرة الّتي تفيد أنّ اللّغة هي الأداة المفهوميّة للفهم].
[9] اِعتبر فراد دونر أنّ الحاجات الثّقافية هي الّتي ولّدت علم التّاريخ الإسلاميّ في بداياته وكتب يقول: The classical Islamic historiography was the product of specific needs that arose during the growth of the community of Believers- particularly the need to define itself as a community of Muslims distinct from other monotheisms, the need to justify its claim to religious and temporal superiority, and the need to adjudicate internal disputes over political and religious leadership within the community. F. M. Donner, Narratives of Islamic origins, 291.
[م. التّاريخ الإسلاميّ القديم نتاج حاجات مخصوصة ظهرت أثناء توسّع جماعة المؤمنين. ومن أهمّ هذه الحاجات: حاجة تحديد هذه الجماعة لنفسها باِعتبارها جماعة إسلاميّة تختلف عن باقي الجماعات التّوحيديّة، وحاجة البرهنة على إثبات اِدّعاء تفوّقها الدّينيّ والدّنيوي، وحاجة الحكم في الجدل الدّاخليّ حول القيادة السّياسيّة والدّينيّة داخل هذه الجماعة ذاتها].
[10] ذهب الأستاذ فرحات الجعبيري في اِستقرائه للفكر الإباضي في بلاد المغرب إلى تقسيمه إلى ثلاث مراحل: الأولى هي مرحلة النّشأة والثّانية هي مرحلة النّضال وتمتدّ من القرن الثّاني إلى القرن الخامس والثّالثة هي مرحلة النّضج وهي مرحلة القرن الهجري السّادس. فرحات الجعبيري، البعد الحضاريّ للعقيدة الإباضيّة، 766. وهو تحديد يتّفق مع الأوضاع الثّقافية الثّلاثة الّتي ضبطتها لهذا الدّور الحضاريّ الأوّل وبعض الاِختلاف راجع إلى أنّ ما ذهب إليه الأستاذ ينحصر في الفكر الإباضي بينما وسّعت هذه الأوضاع اِنطلاقا من اِستقراء كافّة تشكيلات الفكر الدّيني في بلاد المغرب وحصرتها فيما أثبته في المتن. وذهبت الباحثة الإسبانيّة إيسابال فيرّو إلى تقسيم المالكيّة الأندلسيّة إلى مرحلتين اِثنتين، حسب بحثها المحدّد بالقرن الخامس: الفترة الأولى من القرن الثّاني إلى النّصف الأوّل القرن الثّالث وهي فترة اِنتشار الفقه المالكي. والثّانية تنتهي عند اِبن عبد البرّ والباجي وهي فترة تطوير هذا الفكر بالاِهتمام بالحديث وبأصول الفقه. وهو تقسيم يتّفق وما صرت إليه أيضا. M. I. Fierro, El derecho maliki en Al-Andalus : siglos II / VIII – V/ XI, 130.
وأشير إلى أنّ الباحث ﭙيتر هيث قد قسّم التّاريخ الأندلسيّ إلى ثلاثة أطوار أيضا: الأوّل من (92/ 711) إلى (350- 961) والثّاني من (350/ 961) إلى (636/ 1238) والثّالث من (636/ 1238) إلى (897/ 1492). ودرس فيه المعارف الثّلاث: المقدّسة والدّنيويّة والعلميّة. وهو تقسيم لم يذكر أيّ تبرير منهجيّ أو معرفيّ له ويخضع لنظرة سياسيّة إذ يربط بين تغيّر السّلط السّياسيّة الحاكمة والسّمات المعرفيّة لكلّ فترة. Peter Heath, Knowledge, 96- 121.
أمّا ميكلوس موراني فقد اِعتمد على المصنّفات المالكيّة المغربيّة ليقسّم التّراث المالكي إلى أربع فترات: تمثّل الأولى البدايات وتمتدّ من مالك بن أنس إلى محمّد بن سحنون Die Anfänge: Das 2. und 3. Jh. D. h. : die Generation von Malik b. Anas bis Muhammad b. Suhnun. وتمتدّ الثّانية من سحنون إلى نهاية القرن الثّالث Die Schülergeneration Sahnuns bis zum Ende des 3. Jh. D. h. . أمّا الثّالثة فتشمل العصرين الفاطمي والزّيري Das 4. Jahrhundert d. h.die Malikiyya zur Zeit der Fatimiden und Ziriden والرّابعة من القابسي إلى الغزو الهلاليDas 5. Jahrhundert d. h. : von al- Qabisi bis zur Hilal Invasion. ولكنّه بنى هذا التّقسيم اِعتمادا على مصنّفات مالكيّة إفريقيّة فقط. Miklos Muranyi, Beiträge zur Geschichte der hadīt und Rechtsgelehrsamkeit der Malikiyya in Nordafrika bis zum 5. jh. D. h ; Bio- bibliographische Notizen aus der Moscheebibliothek von Qairawan.
[11] اِعتمد اِبن خلدون على مفهوم "الطّور" لدراسة أحوال الممالك فقال "اِعلم أنّ الدّولة تنتقل في أطوار مختلفة وحالات متجدّدة ويكتسب القائمون بها في كلّ طور خلقا من أحوال ذلك الطّور لا يكون مثله في الطّور الآخر". اِبن خلدون، المقدّمة، 219.

كتاب: الفكر العقدي وأسس سيادة الإسلام: دراسة مقارنة: مقتطف من المقدمة

الدكتور المبروك المنصوري: الفكر الإسلامي في بلاد المغرب: الفكر العقدي وأسس سيادة الإسلام
Islamic Thought in the Maghreb: Theological Thought and the Dominance of Islam in the Maghreb
تونس، الدّار المتوسطية للنشر، 2011.
http://www.mediterraneanpub.com/

تمهيد
بحثنا في الكتاب الأوّل من هذا المشروع: "تشكّل الفكر الإسلامي وتطوّره وانتشاره في بلاد المغرب" كيفيّة تشكّل المقالات الإسلاميّة عقديّة وفقهيّة في بلاد المشرق مركّزين على ما سينتشر منها في بلاد المغرب. ثمّ درسنا كيفيّة تشكّل الفكر الإسلامي في بلاد المغرب في القرنين اللّذين تليا فتح هذه البلاد وما رافق الفتح والتّشكّل من ثورات وتنبّؤات وصراعات سياسيّة ومذهبيّة وفتن، وقد أثّر جميعها في العمران المغربي، وفي الفكر المغربي، وفي نوعيّة المقالات الّتي سينتجها هذا الفكر.
وسنركّز في هذا الكتاب على كيفيّة تشكّل المقالات العقديّة المغربيّة من وجهة نظر مقارنيّة للفكر المالكي والإباضي والإسماعيلي والظّاهري والموحّدي، منطلقين من فرضيّة مركزيّة قوامها أنّ تشكّل هذه المقالات العقديّة هو الّذي هيّأ لسيادة الفكر الإسلامي في بلاد المغرب، وأرسخه في عقول المغاربة وقلوبهم. وسيسمح لنا هذا التّصوّر بالتّعرّف على آفاق تطوّر تصوّر الإنسان لله ومن ثمّ للدّين ثمّ للوجود والمصير ممّا سيمكننا من اِستجلاء أثر العمران في تطوّر الفكر الإسلاميّ في هذه البيئة، ومن استجلاء كيفيّة تكيّف الفكر الإسلامي بالأسس الّتي اِنطلاقا منها يفكّر المسلم وينتج ويعيش ليحقّق سعادة الدّارين. وقد كان لهذه الأسس بنى ماديّة ظاهرة وأخرى روحيّة خفيّة ولكن كان لها أيضا بنى ثقافيّة وأنثروبولوجيّة وإثنيّة تعمل داخلها عمل الألياف البصريّة الواصلة بين العين والدّماغ وتعمل جميعها على خلق سيادة الفكر الإسلاميّ في بلاد المغرب.
وسنستأنس بكامل المدوّنة المغربيّة الّتي أُنْتِجَت بين الفتح ووفاة ابن رشد الحفيد في نهاية القرن السّادس. وسندرس كلّ المقالات العقديّة الإسلاميّة عند كلّ الفرق والمذاهب دون تهميش أو إقصاء أو إصدار أحكام معياريّة معتمدين منهجا مقارنيّا علميّا يستوعب كلّ ما أنتجه أسلافنا، ويحافظ على مسافة فاصلة بين الباحث ومادّة البحث، فلا ينخرط في الجدل الّذي انخرط فيه أسلافنا في أيّامهم، ولا ينزاح إلى إصدار الأحكام عليهم.
وسعيا منّا إلى عالميّة الفكر الإسلاميّ فإنّنا سنستأنس أيضا بالمناهج الحديثة الّتي أثبتت جدواها في دراسة الظّاهرة الدّينيّة وساعدت الباحثين على تفهّمها بشكل أعمق وأمتن. فنوظّف بعض مبادئ اللّسانيّات لنحلّل هذه المقالات الفكريّة باِعتبارها دوالَّ ترتبط بمراجع ويتشكّل مدلولها من ثلاث زاويا:
- قيم الفكر والثّقافة وطاقات التّخيّل ومبادئ الأخلاق والمقولات والنظّم الإثنولوجيّة. وهو ما سنسمّيه بالمهاد الثّقافي. وهو مفهوم يجمع الثّقافي في أوجهه المختلفة: الرّسميّ والمهمّش والعالم والشّعبي.
- المادة النّصيّة المصوغة في القرآن والحديث وكيفيّة تأويل العرب لهذه المادّة النصيّة باِعتبار القرآن نازلا بلسانهم وآفاق اِنفتاح التّأويل على المهاد الثّقافي العربيّ قبل الإسلام وبعده ثمّ آفاق اِنفتاحه على الأمهدة الثّقافية الّتي كان للعربيّ بها اِتّصال وتشابك فتحاور خاصّة المهاد الفارسيّ والمهاد القبطي والمهاد الزّنجي والمهاد الإمازيغي الّذي يعنينا بالدّرجة الأولى.
- آفاق انفتاح المهاد الإمازيغي على الأنظمة الغازية لبلاد الإمازيغ قبل الفتح الإسلامي[1] وما لهذه الأنظمة من تأثير حيّ وثريّ في البنى الثّقافيّة الّتي جادلها الإسلام ثمّ حاورها ثمّ تشرّبها.
ومن هنا ترانا نعود من جهة إلى ما اِبتدأنا به لنقرّر أهميّة المهاد الثّقافي مغذّي التّأويل، ولنقرّر أهميّة التّأويل باِعتباره قراءة ثقافيّة للمادّة النّصيّة على المادّة النّصيّة ذاتها. ثمّ لنؤكّد اِختلاف التّأويلات باِختلاف هذه الأمهدة رغم وحدة المادّة النّصيّة تدوينا وترتيلا. ونؤكّد اِستيعاب مصطلح التّأويل، في معناه المعاصر، لكلّ أشكال التّعامل مع المادّة النّصيّة. وهو ما يجعل مصطلحنا منفتحا على هذا الفعل لا باِعتباره آليّة بل باِعتباره منهجا، فهما، تأويلا في حدّ ذاته.
وسنقسّم هذا الكتاب إلى ثلاثة أبواب تختلف من حيث موضوع المقالة العقديّة، وإن كانت الرّؤى متشابكة متواشجة. فما يختصّ باللّه من المقالات سندرجه في باب الإلهيّات، وما يختصّ بالإنسان من مقالات سندرجه في باب الإنسانيّات، وما يختصّ بالآخرة ومقتضياتها سندرجه في باب الأخرويّات. وإدراج مقالة ما في هذا المفصل أو ذاك لا يرجع إلّا إلى هذا الاِعتبار، لذا قد يختلف هذا التّرتيب الّذي اِستعملناه في بعض مقالاته عن التّرتيب التّراثيّ كما أنّ مقالات كثيرة تتشابك بشكل يجعل فصل بعضها عن بعض متعسّرا وهذا ما قد يفسّر تكرار بعض الأسس اِنطلاقا من اِختلاف توظيفاتها بين مقالة وأخرى.
ولنا أن نشير منذ البداية إلى أنّ جملة هذه المقالات العقديّة مترابطة ترابطا كاملا عند كلّ الفرق والمذاهب المغربيّة. وترابطها هو الّذي ولّد سيادة الفكر الإسلاميّ. وقد نبعت هذه الرّؤية من تصوّر معمّق في بلاد المغرب جلّاه أبو عمّار عبد الكافي الوارجلاني في أواخر القرن الهجري السّادس اِستثمر فيه كلّ التطوّرات العقديّة الّتي سبقته قائلا إنّه "حصل لنا من المحدث الوجود والإيجاد، ومن الوجود والإيجاد القدم والحياة. ومن حصل له القدم والحياة حصل له العلم والقدرة. ومن حصل له العلم والقدرة حصلت له الإرادة والمشيئة. ومن حصلت له الإرادة والمشيئة حصل منه الفعل لأنّه محال فاعل ليس بشاء ولا شاء ليس بمريد ولا مريد ليس بقادر وقادر ليس بعالم وعالم ليس بحيّ وحيّ ليس بموجود. وقد تضمّن قولك "الله" جميع ما يتّصف به الباري سبحانه وهذا تفسير قول الله تعالى )اللهُ لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُ الْقَيُومُ( (البقرة 2، 255) فالحيّ يتضمّن الصّفات والقيوم يتضمّن التّكليف والتّصرّف. فدلّ قولنا: الله إنّه قديم وإنّه حيّ وإنّه عالم وإنّه قادر وإنّه مريد وإنّه شاء وإنّه فاعل فهذه السّبع يقتضيها قولك "الله لا إله إلاّ هو الحي" ويقتضي قولك "القيوم" الفعل وهو الخلق والتّكلّيف وهو الأمر والنّهي ويقتضي الأمر والنّهي الطّاعة والمعصية وتقتضي الطّاعة والمعصية الثّواب والعقاب ويقتضي الثّواب والعقاب الجنّة والنّار والجنّة والنّار يقتضيان المصير[2].
ويتأسّس نظرنا في مقالات الإسلاميّين في بلاد المغرب على رؤية جديدة قوامها اعتبار مقالة الجزاء ثاني المقالات العقديّة بعد مقالة التّوحيد. وفي المقالتين يتّفق كلّ الموحّدين مسلمين ونصارى ويهود. وبما أنّ من الدّيانات الوضعيّة من أقرّ الثّواب والعقاب على كيفيّة من الكيفيّات وإن لم يثبت كونهما جنّة أو نارا تصبح مقالة الجزاء ثوابا أو عقابا، في فهمنا، أولى المقالات الدّينيّة بما أنّها غاية الموجود لأنّها كثيرا ما تصبح صيغة حياة ونمط وجود. وهكذا اِنطلاقا من التّاريخ المقارن للأديان نجعل مقالة الجزاء هي المقالة المركز في الفكر الدّيني في الكون توحيديّا كان أو وضعيّا حيّا أو منقرضا. وتضاف إليها في التّوحيديّات مقالة التّوحيد وتكون رديفا تابعا لمقالة الجزاء. وكلّ ما بينهما من إلهيّات وإنسانيّات وأخرويّات وسط لأنّه هو أيضا يستوجب ثوابا أو عقابا أي يشمله هذا المفهوم بشكل مباشر ومن هنا، واِنطلاقا من هذا الفهم كفّر الموحّدون بعضهم بعضا في كلّ المقالات. والحكم بالتّصويب أو التّكفير نابع من تصوّر الثّواب والعقاب وليس نابعا من التّوحيد بما أنّ التّوحيد مقولة مجرّدة أمّا الجزاء فتجسّده التّشريعات المقدّسة والبشريّة وبإمكان الإنسان أن يتمثّل هذا بذاك................
...............................
...........................


[1] هي أمهدة ثقافيّة حُوّرت متأثّرة بالمحليّ. والتّراث الإمازيغي مصطلح يشمل أيضا ما أنتجه الفينيقيّون والرّومانيّون والبيزنطيّون والونداليّون أثناء احتلالهم لشمال إفريقيا. وكثير من المؤرّخين والباحثين يقلبون هذا التّصوّر.
[2] أبو عمّار، الموجز، 1، 153.

كتاب: الفكر التّشريعي وأسس استمرار الإسلام في بلاد المغرب: مقتطف من المقدمة


الدكتور المبروك المنصوري: الفكر التّشريعي وأسس استمرار الإسلام في بلاد المغرب
Legislative Thought and the Continuity of Islam in the Maghreb
تونس، الدّار المتوسطية للنشر، 2011
http://www.mediterraneanpub.com/

تمهيد
بيّنّا في الكتاب الأوّل من هذا المشروع "تشكّل الفكر الإسلامي وتطوّره وانتشاره في بلاد المغرب" كيفيّة تشكّل الفكر الإسلامي وانتشاره في بلاد المغرب. ودرسنا في الكتاب الثّاني من ذات المشروع "الفكر العقدي وسيادة الإسلام في بلاد المغرب" مقوّمات الفكر العقدي في بلاد المغرب دراسة مقارنيّة باعتباره صانع سيادة الفكر الإسلامي في هذه البيئة. وسنحلّل في هذا الكتاب الفكر التّشريعي المغربي منطلقين من مصادرة قوامها أنّ الفكر التّشريعي أصولا وفروعا هو الذي صنع استمرار الإسلام في بلاد المغرب تصوّرا وممارسة. وليست المقالات العقديّة والمنظومات الفقهيّة في التّجربة الإسلاميّة منفصلة بل بينهما من الوشائج والارتباطات ما يظهر حتّى يبدو جليّا وما يدقّ حتّى يتخفّى فلا يكشف عنه إلّا تحليل متقصّ.
نشأت المقالات الإسلاميّة في المشرق مترابطة ولّدها الجدل المتبادل والتبنّي والإقصاء والاِنتماء والمنافرة، وكذا الأمر عند تطوّرها في بلاد المغرب تطوّرا جعلها ملتحمة بالعمران وأحواله اِجتماعا واِقتصادا وسياسة باِعتبارها من نتائج الأوضاع الرّوحيّة والمادّيّة والثّقافية. إنّ المقالة نتاج لأوضاع ثقافيّة صيغت لتؤسّس لدور حضاريّ معيّن، ولا يتغيّر الدّور الحضاريّ إلّا إذا انتهت الأوضاع الثّقافية الّتي تكوّنه. عندها يحلّ محلّه دور حضاري آخر تختلف فيه بنى ومؤسّسات وعلاقات ومنظومات ومفاهيم وتتواصل أخرى غيرها تغذّي حركة التّاريخ تغذية الأصول والرّوافد للمركز. ويقدّم علم الأصول قراءة من القراءات الممكنة للكتاب والسّنّة محورها تنزيل الأحكام الشّرعيّة في إطار الواقع المتحوّل إقرارا لحركيّة ثابتة في الخطاب الشّرعيّ الإسلاميّ. ويتّصل هذا العلم على صعيد النّظريّة والمنهج بعلم المناهج الّذي يبحث في الأدلّة الشّرعيّة تعريفا وترتيبا كما يدرس آليّات الاِستنباط وقوانين الأحكام ويعنى بالاِستدلال وقوانين الجدل والمناظرة ويهتمّ بفقه العلم الّذي يبحث في فلسفة التّشريع[1].
وأثّرت المقالات العقديّة في المذاهب الفقهيّة: الشّريعة، أصولا وفروعا. إذ أنّ التّواشج بين الجانبين في التّجربة الإسلاميّة عميق أدركه عدد كبير من مفكّري بلاد المغرب على اِختلاف مذاهبهم وثقافتهم وأصولهم. ولهذا الوصل بيان دقيق فيما ذهب إليه أبو يعقوب الوارجلاني متدرّجا في أصول البيان الدّينيّ ليصل الشّرعيّ بالعقديّ قائلا في مسائل الأئمّة العشرة "اعلم أن الله تعالى أرسل محمّدا r بالقرآن العظيم وفيه نبأ الأوّلين والآخرين وفيه الفقه في الدّين إلى يوم الدّين. فشرّع فيه أصول الفرائض وفوّض بيانها إلى الرّسول r قال الله U )وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نَزَلَ إِلَيْهِمْ( (النّحل 16، 44). وأطلق رسول الله r عقال المسلمين في التّفقّه في فنون العلم والأصلُ القرآنُ والسنّةُ فرعُه، والأصلُ السنّةُ والرّأيُ فرعُها. وجعل الرّأي حاكما على السنّة والسنّة حاكمة على القرآن فكثرت فنون الرّأي وهي على ثلاثة أوجه... وإلى هذه الفنون رجع اِختلاف النّاس في الكفر والإيمان والشّرك والإسلام والطّاعة والمعصية والفسوق والنّفاق والقول في أسماء الله U وصفاته U وأمثالها والقرآن"[2]. لهذا الفكر أسسه ومنطلقاته وله ما يميّزه عن غيره، ولكن له أيضا صلة دقيقة بأربعة من مفكّري الإسلام صرّح أبو يعقوب ببعضهم فيما صنّف وألمح إلى بعضهم الآخر: اِبن رشد والغزالي وابن عبد البر وابن حزم. هذه الحلقات الأساسيّة كانت تتفاعل في أقصى شمال بلاد المغرب: في شبه جزيرة الأندلس، وكان صداها يتردّد في أقصى جنوب هذه البلاد في واحات وارجلان وجبال نفوسة مرورا بسبتة وجربة خالقة بذلك اِستمرار الفكر الإسلاميّ في هذه البيئة.
ومرّ هذا التّأثير بمفاصل كبرى سنخضعها لنفس المنهجيّة المقارنيّة: منهجيّة التّشكّل والتطوّر لنتبيّن مواطن ثراء هذا الفكر التّشريعي. وسندرس كيف تجادل المغاربة في التّشريع أصولا وفروعا مؤسّسين لمنهجيّة جديدة في النّظر إلى الأصول سنقسّم فيها الأنظمة المسيّرة للعقل الأصولي الإسلامي إلى رموز وآليّات. ثمّ سندرس أثر هذه الرّموز والآليّات في الاختلافات المذهبيّة في ممارسة التّعبّد الإسلامي. وسنختار لذلك نموذجا دقيقا وهو ممارسة الصّلاة لنبحث في أركانها ومقوّماتها وكيفيّة نظر المغاربة إليها وكيفيّة توظيفها في صراعهم المذهبي الماديّ المباشر والفكري غير المباشر. ولكنّ نظرتنا الإيجابيّة إلى تراثنا الإسلامي فتحت الأفق إلى استيعاب كلّ هذه الاختلافات، فلم ننظر إليها على أساس أنّها اختلافات شقاق وفرقة، بل اعتبرناها اختلافات تكامل ورحمة، ونظرنا إليها نظرة إيجابيّة تسحب البساط من تحت أرجل دعاة الطّائفيّة والمذهبيّة، فاعتبرنا هذه الاختلافات جميعها هي المحقّقة لاستمرار الإسلام في في قلوب المغاربة وعقولهم، واستمرار الدّين في الوجدان وفي التّاريخ...............
...............................
...........................


[1] وليد خوري، مدخل إلى مناقشة مختصر المستصفى لابن رشد، 128.
[2] أبو يعقوب الوارجلاني، الدّليل والبرهان، 2، 95.