Saturday, November 12, 2011

كتاب: الفكر التّشريعي وأسس استمرار الإسلام في بلاد المغرب: مقتطف من المقدمة


الدكتور المبروك المنصوري: الفكر التّشريعي وأسس استمرار الإسلام في بلاد المغرب
Legislative Thought and the Continuity of Islam in the Maghreb
تونس، الدّار المتوسطية للنشر، 2011
http://www.mediterraneanpub.com/

تمهيد
بيّنّا في الكتاب الأوّل من هذا المشروع "تشكّل الفكر الإسلامي وتطوّره وانتشاره في بلاد المغرب" كيفيّة تشكّل الفكر الإسلامي وانتشاره في بلاد المغرب. ودرسنا في الكتاب الثّاني من ذات المشروع "الفكر العقدي وسيادة الإسلام في بلاد المغرب" مقوّمات الفكر العقدي في بلاد المغرب دراسة مقارنيّة باعتباره صانع سيادة الفكر الإسلامي في هذه البيئة. وسنحلّل في هذا الكتاب الفكر التّشريعي المغربي منطلقين من مصادرة قوامها أنّ الفكر التّشريعي أصولا وفروعا هو الذي صنع استمرار الإسلام في بلاد المغرب تصوّرا وممارسة. وليست المقالات العقديّة والمنظومات الفقهيّة في التّجربة الإسلاميّة منفصلة بل بينهما من الوشائج والارتباطات ما يظهر حتّى يبدو جليّا وما يدقّ حتّى يتخفّى فلا يكشف عنه إلّا تحليل متقصّ.
نشأت المقالات الإسلاميّة في المشرق مترابطة ولّدها الجدل المتبادل والتبنّي والإقصاء والاِنتماء والمنافرة، وكذا الأمر عند تطوّرها في بلاد المغرب تطوّرا جعلها ملتحمة بالعمران وأحواله اِجتماعا واِقتصادا وسياسة باِعتبارها من نتائج الأوضاع الرّوحيّة والمادّيّة والثّقافية. إنّ المقالة نتاج لأوضاع ثقافيّة صيغت لتؤسّس لدور حضاريّ معيّن، ولا يتغيّر الدّور الحضاريّ إلّا إذا انتهت الأوضاع الثّقافية الّتي تكوّنه. عندها يحلّ محلّه دور حضاري آخر تختلف فيه بنى ومؤسّسات وعلاقات ومنظومات ومفاهيم وتتواصل أخرى غيرها تغذّي حركة التّاريخ تغذية الأصول والرّوافد للمركز. ويقدّم علم الأصول قراءة من القراءات الممكنة للكتاب والسّنّة محورها تنزيل الأحكام الشّرعيّة في إطار الواقع المتحوّل إقرارا لحركيّة ثابتة في الخطاب الشّرعيّ الإسلاميّ. ويتّصل هذا العلم على صعيد النّظريّة والمنهج بعلم المناهج الّذي يبحث في الأدلّة الشّرعيّة تعريفا وترتيبا كما يدرس آليّات الاِستنباط وقوانين الأحكام ويعنى بالاِستدلال وقوانين الجدل والمناظرة ويهتمّ بفقه العلم الّذي يبحث في فلسفة التّشريع[1].
وأثّرت المقالات العقديّة في المذاهب الفقهيّة: الشّريعة، أصولا وفروعا. إذ أنّ التّواشج بين الجانبين في التّجربة الإسلاميّة عميق أدركه عدد كبير من مفكّري بلاد المغرب على اِختلاف مذاهبهم وثقافتهم وأصولهم. ولهذا الوصل بيان دقيق فيما ذهب إليه أبو يعقوب الوارجلاني متدرّجا في أصول البيان الدّينيّ ليصل الشّرعيّ بالعقديّ قائلا في مسائل الأئمّة العشرة "اعلم أن الله تعالى أرسل محمّدا r بالقرآن العظيم وفيه نبأ الأوّلين والآخرين وفيه الفقه في الدّين إلى يوم الدّين. فشرّع فيه أصول الفرائض وفوّض بيانها إلى الرّسول r قال الله U )وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نَزَلَ إِلَيْهِمْ( (النّحل 16، 44). وأطلق رسول الله r عقال المسلمين في التّفقّه في فنون العلم والأصلُ القرآنُ والسنّةُ فرعُه، والأصلُ السنّةُ والرّأيُ فرعُها. وجعل الرّأي حاكما على السنّة والسنّة حاكمة على القرآن فكثرت فنون الرّأي وهي على ثلاثة أوجه... وإلى هذه الفنون رجع اِختلاف النّاس في الكفر والإيمان والشّرك والإسلام والطّاعة والمعصية والفسوق والنّفاق والقول في أسماء الله U وصفاته U وأمثالها والقرآن"[2]. لهذا الفكر أسسه ومنطلقاته وله ما يميّزه عن غيره، ولكن له أيضا صلة دقيقة بأربعة من مفكّري الإسلام صرّح أبو يعقوب ببعضهم فيما صنّف وألمح إلى بعضهم الآخر: اِبن رشد والغزالي وابن عبد البر وابن حزم. هذه الحلقات الأساسيّة كانت تتفاعل في أقصى شمال بلاد المغرب: في شبه جزيرة الأندلس، وكان صداها يتردّد في أقصى جنوب هذه البلاد في واحات وارجلان وجبال نفوسة مرورا بسبتة وجربة خالقة بذلك اِستمرار الفكر الإسلاميّ في هذه البيئة.
ومرّ هذا التّأثير بمفاصل كبرى سنخضعها لنفس المنهجيّة المقارنيّة: منهجيّة التّشكّل والتطوّر لنتبيّن مواطن ثراء هذا الفكر التّشريعي. وسندرس كيف تجادل المغاربة في التّشريع أصولا وفروعا مؤسّسين لمنهجيّة جديدة في النّظر إلى الأصول سنقسّم فيها الأنظمة المسيّرة للعقل الأصولي الإسلامي إلى رموز وآليّات. ثمّ سندرس أثر هذه الرّموز والآليّات في الاختلافات المذهبيّة في ممارسة التّعبّد الإسلامي. وسنختار لذلك نموذجا دقيقا وهو ممارسة الصّلاة لنبحث في أركانها ومقوّماتها وكيفيّة نظر المغاربة إليها وكيفيّة توظيفها في صراعهم المذهبي الماديّ المباشر والفكري غير المباشر. ولكنّ نظرتنا الإيجابيّة إلى تراثنا الإسلامي فتحت الأفق إلى استيعاب كلّ هذه الاختلافات، فلم ننظر إليها على أساس أنّها اختلافات شقاق وفرقة، بل اعتبرناها اختلافات تكامل ورحمة، ونظرنا إليها نظرة إيجابيّة تسحب البساط من تحت أرجل دعاة الطّائفيّة والمذهبيّة، فاعتبرنا هذه الاختلافات جميعها هي المحقّقة لاستمرار الإسلام في في قلوب المغاربة وعقولهم، واستمرار الدّين في الوجدان وفي التّاريخ...............
...............................
...........................


[1] وليد خوري، مدخل إلى مناقشة مختصر المستصفى لابن رشد، 128.
[2] أبو يعقوب الوارجلاني، الدّليل والبرهان، 2، 95.

No comments:

Post a Comment